برع في كتابة الشعر، وتميّز بنظرته الوجدانية التأملية، وبعمقها الفلسفي، رحل بصمت ليترك بصمةً لا تزول، تاركاً رصيداً غنياً من الدواوين الشعرية والدراسات النقدية.

مدوّنةُ وطن "eSyria" التقت ابنة الشاعر الراحل "مصطفى خضر" المدرّسة "سلام خضر" بتاريخ 10 آذار2020، لتحدثنا عن مسيرة والدها الإبداعية، قائلةً: «ظهر نبوغه وذكاؤه منذ طفولته، حيث بدأ دراساته عند شيخ الكتاب مثل أبناء جيله، فاستطاع خلال عدة شهور تعلُّم القراءة والكتابة والحساب، ليضعه والده في مدرسة ابتدائية تدعى "المتنبي" في حي "باب السباع" بـ "حمص"، فأذهل معلميه من شدة ذكائه، وينقل من الصف الأول إلى الصف الثالث بشكل مباشر.

مع بداية المرحلة الثانوية، بدأ بنشر قصائده في مجلة "المعارف"، ومجلة "الآداب" وغيرها، وفي عام 1964 كتب أول مقالة نقدية بعنوان "الشعر والميتافيزيقيا"، وبعد اكتسابه كل هذه الخبرة والتجربة، من خلال الشعر والنقد والأدب والحياة، وجد في الزهد فضيلة، حيث كان يحب الخلو والتأمل، فتدرب على نقد الذات، واحترام الاختلاف، والاعتراف بالآخر كخصم وندّ وصاحب ورفيق، كان دائماً يسعى لإيجاد وجهات نظر مع الشخص الآخر

بدأت تتضح لديه موهبة الشعر بعد اطلاعه على ديوان "أبو الطيب المتنبي"، وتعرف من خلال أحد جيرانه المثقفين على أشعار "المكزون السنجاري"، و"المنتجب العاني"، و"لزوميات المعري"، ومن خلال المكتبة العامة في "حمص"؛ عمل على زيادة معارفه، الفلسفية منها والفكرية والنقدية والشعرية، سواء القديمة أو الحديثة أو المعاصرة، وكان يمتلك نهماً كبيراً لقراءة كل شيء، من الشعر إلى الرواية إلى النقد ودراسة المسرح.

الشاعر محمد الفهد

حصل والدي على إجازة في الفلسفة من كلية الآداب في جامعة "دمشق" عام 1968، وعمل مدرساً في دور المعلمين، ومعهد إعداد المدرسين بـ"حمص" من عام 1970 حتى 1980، ثم عمل مدرباً تربوياً في التدريب المستمر، حتى تقاعد عام 2004، حيث كان الطلاب يتنافسون للتدرب لديه، بهدف سماع نصائحه وتعليماته، فهو الأب والأخ الكبير لهم».

وأضافت: «مع بداية المرحلة الثانوية، بدأ بنشر قصائده في مجلة "المعارف"، ومجلة "الآداب" وغيرها، وفي عام 1964 كتب أول مقالة نقدية بعنوان "الشعر والميتافيزيقيا"، وبعد اكتسابه كل هذه الخبرة والتجربة، من خلال الشعر والنقد والأدب والحياة، وجد في الزهد فضيلة، حيث كان يحب الخلو والتأمل، فتدرب على نقد الذات، واحترام الاختلاف، والاعتراف بالآخر كخصم وندّ وصاحب ورفيق، كان دائماً يسعى لإيجاد وجهات نظر مع الشخص الآخر».

ابنة الشاعر الراحل سلام مصطفى

وتناولت علاقته مع عائلته والوسط الثقافي، قائلة: «شغل منصب مقرر جمعية الشعر لسنوات عديدة في اتحاد الكتاب العرب في "سورية"، وأمين سرّ فرع "حمص" لاتحاد الكتاب، منذ عام 1990 حتى 2002، وكانت علاقته مع العائلة مميزة، حيث تفتحت عيوننا في منزلنا على عشق العلم والمطالعة، فلم يكن يتوانى عن إحضار الكتب، مع امتلاكنا لمكتبة صغيرة، ليشجعنا على أن نعتمد على أنفسنا، وأن نعتمد أسلوب التعليم الذاتي، والتفكير بطريقة مختلفة، فكان منزلنا عبارة عن صالون أدبي، يرتاده أكبر الشعراء مثل "ممدوح عدوان"، "ليلى صايا سالم"، "ممدوح سكاف"، "أحمد دحبور"، "محمد الفهد"، "محمد عمران" وغيرهم، كنا ننتظر حضورهم، لنستمتع بسماع الشعر والنقد، وعند إصداره أول ديوان شعري اشترى لنا بالمكافأة النقدية آلة "الاكورديون"، لنتعلم العزف، وتحفيز العقل والتعلم، لكي نطور أنفسنا، ونكتشف العالم من حولنا».

وتحدثت عن تجربته الشعرية، قائلة: «كتب الشعر في نهاية الخمسينات، وفق نظام التفعيلة، بالإضافة إلى كتابة أشعار وفق نظام البيت العربي الواحد، وكان لدراسته الذاتية الدور الأول في تحصيل وتجميع المعلومات، وكان يعنى بتحديث الإيقاع والنظم الإيقاعية، وبتوظيف التفعيلة، واقتراح إيقاع مركبّ ومتنوع، وغلب على شعره طابع التصوف والعمق الفلسفي، له العديد من الدواوين التي لم تطبع مثل "فارس الرؤيا" عام 1965، "أشعار منسية" عام 1964، أما أول ديوان صدر له حمل عنوان "من أين تبتدئ القصيدة؟" عام 1983، والمرثية الدائمة عام 1984، و"رماد الكائن الشعري" عام 1985، و"جمهورية الأرض" عام 1987، و"العين والفضاء" عام 1988، و"طفولة هذا المكان" عام 1990، و"فضاء للجماعة" عام 1994، وديوان "الزخرف الصغير" عام 1997، و"النشيد الدنيوي" عام 1999، و"أختار أن أتأمل" عام 2000، "حجارة الشاعر" عام 2003، ووجه شعره للأطفال بديوانين شعريين هما: "دفتر النهار" عام 1986، و"أنشودة الأرض" عام 1987. أما دراساته النقدية فهي: "الشعر والهوية" عام 1990، و"الحداثة كسؤال هوية" عام 1996، و"النقد والخطاب" عام 2001، ومن أكثر الأشعار التي أحبها قصيدة "إعلان عن جسم كثير" من ديوانه "النشيد الدنيوي" وجاء فيها:

بعض عناوين كتبه

وهل كنتُ جسماً أرَّختْهُ تربةٌ أولى،

أقسّمهُ جسوماً، ربّما اختبرتْ إقامَتَها مَعَهْ!

زغبتْ، نَمَتْ، كبرتْ، صحتْ، أَغْفَتْ

يحرّضُ روحَهَا أفقٌ وأجنحةٌ.. مسافاتٌ وأهوالٌ.. تحرّكُها مصادفةٌ، وتنسجُ من هواءٍ أشرعهْ!

كيف استجابتْ للهبوبِ الآدميِّ الداخليِّ،

و"مصطفى" يحنو على ورقٍ قديمٍ أو حديثٍ،

شخصهُ جسمٌ قديمٌ أو حديثٌ،

روحهُ ورقٌ قديمٌ أو حديثٌ،

لا يشاركهُ الوريثُ حنينَهُ السريَّ،

لا يصغي إليهِ. لا يحاورهُ وريثٌ..

والجسومُ كثيرةٌ.. في جسمهِ اكتشفتْ

هزائمَ أو مجاعاتٍ... شعوباً أو جماعاتٍ».

وتناول تجربته الشاعر "محمد الفهد" في حفل تأبينه في فرع "حمص" لاتحاد الكتاب العرب، حيث قال: «لو أردنا أن نختار عنواناً لأعمال الشاعر "مصطفى خضر"، فلن نجد أصدق وأكثر شمولية وعمقاً ودلالة من مأساة الواقع، بدءاً من "نكسة حزيران"، مروراً بالخيبات والهزائم، التي كانت بدورها تحفر في الروح وتترك ندوباً لا يمحوها الزمن.

ومن هنا نرى أنّ الطفولة، وما تحمله من رؤى كانت ملاذاً له، حين تضيق مساحة الأسئلة حاملة معها بائية فنية عالية، تضعنا أمام نص ينتمي للشاعر "مصطفى" بما يحمله من أجنحة مترفة بخيال خصب، مغموساً برؤى ذاتية تسكن روحه، يحملها ولع الموسيقا وبتركيبة نادرة، بحيث يصبح قارئه أمام مشهدية تشكل الرؤى الفلسفية مركزها، بلغة باذخة.

ولن أجد أصدق من قول الشاعر "علاء عبد المولى" عنه: أنت واحد من قلة لا أعرف كيف أرثيهم، فلم يسبق لي وأن جربت انطفاء كوكب، كان معلماً.

والدروس التي كان يصرُّ عليها، ليس هناك شعر سهل، ليس هناك جمهور للشعر، ليس هناك شعر إلا وكان الفكر ضرورة ملازمة له، فقارئ شعره سيرى إلى أي مدى يمتاز هذا الشعر بنظرة وجدانية تأملية، فيها العمق الفلسفي والبعد الوجداني، الذي يمنح من وجدان الألم البشري، ومن طفولة كانت حاضرة في روحه، ليكون القهر سمة الوجود.

وقصيدته بتعبير الشاعر "أحمد دحبور" مكثفة حتى الإرهاق، فأنت لا تكاد تلحق الفكرة عنده حتى يصدمك بالصورة، وبين الفكرة والصورة تنتصب الأسئلة، ليكون أشعر جيله».

يذكر أنّ الشاعر "مصطفى خضر" من مواليد "بولص" في محافظة "حماة" عام 1944، وتوفي عام 2019.