بدايته الحرفية بالتعامل مع الدواليب كانت محفوفة بالمتاعب والمحبة للعمل، ولكن إصراره على تحقيق الاستدامة الجيدة لكسب القبول لأحذيته الجبلية كان الأقوى، وهو الأمر الذي منحه اسم شيخ كار حذائي مدينة "مصياف".

شيخ كار حذائي مدينة "مصياف" الحرفي "إبراهيم عبدو الشيخ علي" اسم ينبغي أن يستمع بمحبة إلى مفردات صاحبه، جميع أبناء مهنة صناعة وتجارة الأحذية، وهذا بحسب حديث الحرفي "أحمد ضبعان" العامل بالمهنة منذ اثنين وعشرين عاماً، مضيفاً: «جميع العاملين بمهنة صناعة وتجارة الأحذية في مدينة "مصياف" يحترمون هذا الرجل الحرفي النشيط الذي لم يبارح مكان عمله حتى الآن على الرغم من سنوات عمره المتقدمة، فهو ملتزم بها ومشرف على تجارتها وتعاملاتها التجارية بوجه عام، وله كلمة الفصل بأي خلاف قد يحصل لأنه مرجعية الأغلبية، حتى إن له رأيه في بعض "الموديلات" المبتكرة حديثاً، إضافة إلى أن احترامه فُرض علينا لما قدمه للمهنة من أسس وقواعد وشهرة بين مختلف المناطق والمحافظات، فهو من أوائل مؤسسي هذه الحرفة وأكبرهم وآخرهم حتى الآن».

انتزاع الأسلاك المعدنية الموجودة بالإطارات صعب جداً لأنه يدوي، ثم عملية القص وفق المقاس والقوالب البدائية، وتعقبها عملية الخياطة اليدوية بالخيط والإبرة الكبيرة

أما الحرفي "طه الشيخ علي" فقال: «هو كشيخ كار معروف في هذه الحرفة منذ القدم يلقى الاهتمام الكبير من حيث المعرفة التي يمتلكها ومودته للآخرين من أصحاب الحرفة، ونحاول الحصول عليها منه بالسؤال الدائم عندما نواجه أي مشكلة، علماً أنه أحياناً وخلال متابعته للعمل يتوجه بالنصح لأي حرفي يجد لديه مشكلة في التعامل مع الحرفة وفق أصولها، كما أنه يسعى دائماً من خلال أحاديثه معنا إلى الحث على احترام العمل وتقديم الأفضل للمحافظة على الاسم والسمعة التي صنعها على مدار سنواته التسعين، هذا ناهيك عن حسن استقباله للجميع والترحيب بهم على الدوام في محله التجاري».

أحمد ضبعان

ويتابع "طه": «المميز بشيخ كارنا أنه كان يدرك مقاسات أقدام أغلب زبائنه وفقاً للاسم بعد التعرف إليهم والتعامل معهم لأول مرة، وهو ما أدركه الزبائن وأحبوه وخفف من بعض تكاليف النقل عليهم، حيث يأتي رب العائلة ويشتري لجميع أفراد عائلته من دون الحاجة إلى التبديل فيما بعد أو إعطائه حينها؛ وهذا جعل من علاقاته الاجتماعية ممتازة مع الجميع ورغب الزبائن بالتعامل معه».

في حين أن التاجر "رامي أبو الجدايل" أكد أن الجد "إبراهيم" حرفي ملم بخفايا المهنة حتى الآن، وبمختلف جوانبها، وهذا يستدعي مني سؤاله عن كل جديد فيها، حتى إنني أسأله في حال رغبت بالترويج لأي "موديل" جديد، لأن خبرته الطويلة منحته نظرة ومعرفة بحاجات السوق ومواسمها».

المحل القديم في السوق الصغير بمدينة مصياف

ويضيف: «لا يمكن أن يمر أحد بجانب محله التجاري من دون إلقاء التحية عليه، لأنه إن لم يفعل ذلك لن يسلم بعدها من طرفته و"نكتته"؛ حتى إنه سيصبح حديثه على مدار اليوم، فهو صاحب ابتسامة دائمة».

وفي لقاء مع الحرفي وشيخ كار حذائي مدينة "مصياف" المعمر "إبراهيم عبدو الشيخ علي" قال: «سنوات عمري التي تقارب المئة لم تمنعني من متابعة عملي الذي نذرت نفسي له منذ أكثر من سبعين عاماً، ولم أغادر محلي التجاري هذا في السوق الصغير بمدينة "مصياف" منذ خمسين عاماً، وذلك بعد أن أهلت حرفيين مهرة يتقنون العمل والتجارة، حيث كنت قبل تلك الفترة أصنع الأحذية الجبلية يدوياً، وكان الناس يطلقون عليّ "السكيفاتي الشيخ علي"؛ أي إنني أصنع وأصلح الأحذية لهم، وقد كان تصنيع الأحذية الجبلية حينها يدوياً بالكامل من إطارات السيارات التي كنت أشتريها من "حماة" و"بيروت" و"دمشق"، وذلك بحسب الأسعار التي يمكن أن أحصل عليها لتساعدني فيما حاولت تقديمه للزبائن من متانة ودقة وأسعار مناسبة لهم».

رامي أبو الجدايل

ويتابع: «تعلمت المهنة مذ كان عمري عشر سنوات، وبدأت العمل بمفردي من دون مساعدة أحد، وقد خضع عملي حينها للكثير من التجارب والأخطاء ومن بعدها التصويب للوصول إلى الحذاء المطلوب والمناسب للبيئة الجبلية لدينا، وذلك لأنه لم يكن يوجد أحد قبلي يعمل يدوياً بصناعة الأحذية الجبلية.

عملت بتنظيم وعمل جاد؛ وهذا انعكس على سمعتي في العمل، فتوسعت بالعمل على مختلف "موديلات" الأحذية المعروفة، وبدأت تصريف منتجاتي عبر المحال التجارية التي بدأت العمل بتجارة الأحذية ومنها إلى مختلف المناطق والقرى القريبة والبعيدة عنا.

علاقاتي الجيدة مع الجميع زادت من إنتاجي وتسويقي للمنتجات، علماً أنه كان حذاء أو اثنين أقدم مني بالعمل بمدة بسيطة جداً، لكنني كنت متميزاً من ناحية الجودة والنوع المطلوب "الشعبي الجبلي"، لكنهم غادروا الحياة باكراً وبقيت أنا أعمل وأتابع العمل في الورشات الخاصة بي حتى الآن، وأقول الورشات لأن طبيعة العمل بصناعة الأحذية تتطلب وجود عدة ورشات اختصاصية لكل منها عملها الخاص».

الحرفي "إبراهيم" كشيخ كار أصبح مصدر المعلومة، وهنا قال: «بقائي بالعمل حتى الآن واتساع رقعة تصريفي وتوزيعي للمنتجات في مختلف المناطق جعلني مركز سؤال واستفسار جميع العاملين بمهنة صناعة الأحذية، حتى إن جميع الأحذية المصنعة تصرف تحت اسم "أحذية أبناء الشيخ علي"، وبذلك أكون مصدر الإنتاج الأساسي في المهنة، ومصدر المعلومة لكل محتاج، وهذا انعكس إيجابياً على طبيعة العلاقات والتعاملات التجارية، فالجميع هنا ينادونني بشيخ الكار، فلي كلمة الحق المسموعة بين الجميع».

ويتابع: «تميزت أحذيتي بالجودة الجيدة المناسبة لمختلف الأحوال المادية، وهذا دفع بعض تجار الريف الحلبي ليكونوا زبائن لدي، للحصول على منتجاتي من الأحذية، وهذا لأنهم يدركون تماماً احترامنا للحرفة وأصولها وتعاملاتها، والخبرة والسمعة الطيبة التي عملت عليها منذ بداياتي بالعمل هما ما أهّل استمراريتي حتى الآن ومنحني صفة شيخ الكار باعتراف الجميع، واحتراماً من مختلف التجار في السوق الصغير بمدينة "مصياف" يطلق أغلبهم على محالهم اسم "الشيخ علي"؛ لذلك تجد هذا الاسم عنواناً للكثير من المحال التي نملكها والتي لا نملكها».

الاستمرار في العمل والبيع كان الهدف لدى شيخ الكار، وهنا قال: «لم أتخلَّ عن البيع المباشر للناس حتى بعد توسع عملنا بالحرفة، وذلك لمحاولة الضبط الدائم للأسعار، ولولا هذه العملية لوجدت أن الأسعار ارتفعت ارتفاعاً جنونياً كالمعتاد مع كل أزمة عامة».

وبالعودة إلى حديث وذكريات الزمن الجميل قال الحرفي "إبراهيم": «كانت أدواتي بالعمل بسيطة ومن ابتكاري وفق الحاجة، خاصة أن العمل بالإطارات الكبيرة يحتاج إلى أدوات غير متوافرة بالسوق أساساً كالسيف الكبير الخاص بعمليات التقطيع والتفصيل، وجودة الأحذية كانت من متانة المواد الأولية التي تصنع منها وهي الإطارات الكبيرة، وكتوثيق لهذا الأمر قام مختصون من شعبة الآثار في المدينة منذ مدة بمتابعة مراحل التصنيع وفق الطريقة التقليدية ووثقها مع الاحتفاظ بالمنتج لديه، وهي موجودة بين معروضاته».

ويتابع: «انتزاع الأسلاك المعدنية الموجودة بالإطارات صعب جداً لأنه يدوي، ثم عملية القص وفق المقاس والقوالب البدائية، وتعقبها عملية الخياطة اليدوية بالخيط والإبرة الكبيرة».

وعن مفارقات تلك المرحلة الزمنية قال: «تأمين طلبات الزبائن من الأحذية في السابق كان يتم وفق دور يضطر صاحبه للانتظار ما يقارب الشهر، وهذا لأن مراحل العمل صعبة وتحتاج إلى الوقت، ولكن الحذاء في تلك الأيام تميز بالمتانة والعمر المديد».