المهنة تعرف صاحبها؛ لهذا تختار من يتمتع بإرادة قوية وبنية صلبة، لتكشف له سر الصنعة ولتكون مطواعة بين يديه، فيلقب بشيخ "الكار" لإتقانه لعمله ورغبته بتعليم المهنة لمن يرغب بالمحافظة عليها.

تعد "مهنة الحدادة العربية" من المهن التراثية التي يعود عمرها إلى مئات السنين، وترتبط مع الفلاح والعامل بوجه مباشر فاختص بتصنيع الأدوات الزراعية اليدوية، من فأس و"منكوش" وقوالب مختلفة، الحرفي "أحمد محمد إبراهيم" الذي التقته مدونة وطن "eSyria" بتاريخ 12 آب 2015، في محله الذي يقع في "السوق الصغير" الأثري التابع لمنطقة "مصياف"، فحدثنا قائلاً: «لقد كانت المنطقة تعتمد على عدة مهن أساسية، لكن نتيجة الحداثة وتغير الزمن اختفت بعض المهن مثل "البيطار"، وحافظ بعضهم على وجوده كالحدادة العربية، وبما أن منطقة "مصياف" تتميز بطبيعة جبلية قاسية، فلا يمكن الاستغناء عن اليد العاملة على الرغم من دخول الآلات الزراعية الحديثة، هذا ما ساعد على بقاء هذه المهنة حتى يومنا هذا، فهي من المهن القاسية التي لا يمكن الاستمرار فيها لمدة طويلة، فالتعامل مع النار القوية والحديد الصلب يحتاج إلى بنية قوية وإرادة صلبة، ومع ذلك فإنها تملك سحراً خاصاً بها، وما أن تكتشف سر الصنعة فإنها ستجري في دمك ولا تستطيع تركها، وبما أنني أكبر أفراد أسرتي فقد فُرضت علي بعد أن تعب والدي صحياً، إذ بدأت العمل الجدي بعمر 25 عاماً فأنا من مواليد 1964، حيث ورثتها من والدي الذي بدوره ورثها من والده، فوجدت متعة بممارستها وراحة بال».

بما أن محل الحدادة يقع في السوق فإنني أقصده دائماً، فهو معروف بمهارته بالتصنيع وأسعاره المقبولة كوالده، فهو يسعى لكسب لقمته بالحلال؛ على الرغم من أن الطلب زاد على هذه الأدوات الزراعية نتيجة غلاء الأسعار إلا أنه حافظ علىش أسعاره المقبولة

ويتابع: «لم يطرأ تغيير على مراحل التصنيع، إلا أن تغير بعض الأدوات المستخدمة جعلته أسرع، حيث كنا نستخدم الأعواد الخشبية لإشعال النار وتحميتها، أما حالياً فنقوم بالنفخ يدوياً بواسطة المنفاخ الذي يشبه شكل آلة "الأوكورديون" لكن حجمه أكبر، ونستخدم الفحم الحجري الذي نحصل عليه من مصفاة "بانياس"، أما لإشعالها بقوة فنعتمد على المروحة الكهربائية، ونستخدم الجلخ الكهربائي بدلاً من المبرد لسن القطع الحديدية، تحتاج المهنة إلى ثلاثة أشخاص أو شخصين على الأقل، ويجب أن يكونا متفاهمين بالعمل لأنه إن أخلّ أحدهم بجزء من الثانية فمن الممكن أن يتأذى أحدهم؛ فالطرق يجب أن يكون احترافياً، وهنا تظهر حرفيتك ومهارتك بالصنعة».

ورشة الحداد

لإتقان مهنة الحدادة يجب أن تكون معلماً بكل مراحل التصنيع، فوضح لنا: «بداية نقوم بإشعال النار في "الكور" لتحمية "البولاد"، ثم نقوم بقص ريشة المقص للسيارات المتكسرة التي نحصل عليها من محال الخردة، فنضعها في بيت النار ثم نقوم بطرقها بطريقة احترافية؛ حيث لا يجوز ضربها بعشوائية أو بقوة، ثم نضعها في جرن مملوء بالمياه لسقايتها حيث نزيد من قساوتها».

تعلم المهنة يجب أن يكون من أصحابها لأن أي خلل له نتائج سيئة على الصعيد المهني والصحي، فقال: «فبيت النار مصنوع من الحجر ومغلق جيداً حتى لا تتسرب رائحة الفحم الحجري، فهو يحوي غاز الكبريت وهو سام إن تنشقه الإنسان على المدى الطويل، والنار يجب أن تكون قوية لتحمية الحديد فهناك مقولة تقول: "دق الحديد وهو حامي"، أما الأدوات المستخدمة في هذه المهنة فنحن نقوم بتصنيعها كـ"المهدة والملقط السندان"، ونصنع الأدوات الزراعية وغير الزراعية، منها: "الفاروعة ومنجل الحطب والفأس والمقص والشاكوش والرقش والسندان"، أما السندان الموجود في المحل فيعود عمره إلى 80 سنة، وقد أتى به والدي من "حلب" وهو مصنوع من روح "البولاد" القاسي ليحتمل الضربات».

تاجر الأدوات الصحية والكهربائية علي شاهين

لقد تأمل بي الناس خيراً لأنني ورثت المهنة واللقب، فأوضح لنا الحرفي "إبراهيم" الملقب بـ"شيخ الكار" بالقول: «إن هذا ما حملني مسؤولية كبيرة؛ وذلك لأن والدي جاهد طوال حياته لبناء علاقة طيبة بينه وبين الناس أساسها الثقة المتبادلة، وعندما سلمني المحل صمم على مرافقتي لمدة خمس سنوات، ليتأكد من أنني سأتمكن من المحافظة على مكانته الاجتماعية والمهنية، حالياً اختلف الزمن حيث الأغلبية العظمى من الناس تفضل الانعزال أو الكتمان، لكن بسبب السمعة الطيبة التي تكونت من نزاهتي ومهارتي بعملي تجد أن هناك من يتقصد أن يأتي باكراً وقبل أن يفتح السوق ليحدثني عن مشكلة أو يأخذ رأيي بقضية ما».

كما التقينا الحرفي "عدنان إبراهيم" من مواليد 1975 الذي ورث المهنة من والده ويساعد ابن عمه في المحل، قال: «نحن بلد زراعي لذلك هي من المهن التي لا تموت، فازداد الطلب على الأدوات الزراعية المصنعة يدوياً لأنها أمتن وخاصة في هذه الظروف أغلب الناس بدأت تستغل المساحات القابلة للزراعة، تعلمت المهنة من والدي ونزلت للعمل بدلاً منه بعد أن تعب صحياً أكملت طريقي المهني مع ابن عمي "أحمد" الملقب بـ"شيخ الكار" لمهارته في مراحل التصنيع كافة، وأخلاقه الحسنة؛ فالحرفي الذي يذاع صيته يقصده الناس من المناطق الأخرى، وعلى الرغم من قساوة المواد التي نتعامل معها، إلا أنك تجد متعة وأنت تعمل حيث تقدم فائدة لكل من الفلاح والعامل، إذ تحول المادة القاسية الصلبة "كالبولاد" ليصبح عجينة طيعة بين يديك».

جار الحرفي "إبراهيم"، تاجر الأدوات الصحية والكهربائية "علي محمد شاهين" حدثنا قائلاً: «هو صاحب نظرة ومهارة، ولديه قدرة على تصنيع الأشكال الجديدة، لأن القطع التي يقوم بتصنيعها إما أن تكون مفقودة في السوق نتيجة توقف الاستيراد أو بسبب الظروف التي تفرض علينا، إن عدد المارة الراغبين بمشاهدة مراحل التصنيع على الرغم من الصوت العالي الذي يصدر عن الطرق، حيث تجدهم مبهورين بالحركات المنسجمة فيما بينهم، محب لمهنته ومن يقصده لتعلم المهنة فإنه يستقبله بصدر رحب».

المزارع "علي حسن الحميري" من زبائن المحل بين لنا: «بما أن محل الحدادة يقع في السوق فإنني أقصده دائماً، فهو معروف بمهارته بالتصنيع وأسعاره المقبولة كوالده، فهو يسعى لكسب لقمته بالحلال؛ على الرغم من أن الطلب زاد على هذه الأدوات الزراعية نتيجة غلاء الأسعار إلا أنه حافظ علىش أسعاره المقبولة».