مجتمع ريفي بحياته مدني بعلاقاته، منتج بطبعه، طريف الحس والكلمة، أطلقت عليه المجتمعات المحيطة به اسم "الطير الناطق".

فالعلاقات الاجتماعية بالنسبة لأبناء وسكان قرية "دير ماما" التابعة لمدينة "مصياف" محافظة "حماة" تميزت بالنسبة لهم، يتحدثون عنها باستمرار، وهذا ما أكده السيد "أحمد حامد عباس" مختار القرية، لمدونة وطن "eSyria" بتاريخ 20 تشرين الثاني 2014، فقال: «تمتع المجتمع الدير مامي بحس الفكاهة والنكتة على مر العصور التي عاشها أبناء القرية في هذه المنطقة، فلا يستطيع أحد مجابهتهم ولو حتى بالحديث بمختلف المجالات والاختصاصات، لأنهم اعتمدوا على ذاتهم منذ بداية نشوئهم بالتثقيف واكتساب الخبرات والمعارف.

في قريتنا الكثيرون من الأهالي ليسوا من أصول ديرمامية، ولكنهم أحبوا طبيعة مجتمعنا وما شاع عنه، فرغبوا بالتملك والاستقرار فيه، فكان لهم ذلك بمحبة وطيب خاطر، وهذا أمر قلما يحدث في مجتمعات أخرى

وقد نمى حس الفكاهة لدى هذا المجتمع القروي، من طبيعة عيشهم البسيطة المتصالحة مع نفسها والمتأقلمة مع بيئتها كثيراً، فلم تكن للأحزان والهموم والمشكلات دور بحياتهم، حيث يختلون في الصباح إن حدث هذا الأمر، ويلتقون في المساء على سهرة شعرية وزجلية يتحابرون بها فيما بينهم بين أخذ ورد لإثبات الأجدر والأقدر بالثقافة العامة وفصاحة كلماته».

الجد عباس شمسو

ويتابع المختار "أحمد" فيقول: «خلال ثلاثة عشر عاماً من عملي كمختار لم يلجأ إلي شخصان متخاصمان بخلاف كبير، بل على العكس أكبر خلاف كان يحل بعزيمة بسيطة وسهرة خاصة من السهرات التي اشتهر وعرف بها مجتمعنا الدير مامي، والتي يسمونها سهرة المصالحة مع الذات بحضور المشروب الخاص المصنوع بأيادي دير مامية بأفضل الطرائق والمعايير العالمية.

لقد تميز هذا المجتمع الريفي البسيط بذكائه العالي، فكان منه أول طبيبة في مدينة "مصياف" وهي الدكتورة "رئيسة عبد الله"، لا جرم هذه النسبة العالية من الذكاء لم تكن وليدة يوم وآخر، ولم تنحصر أو تنته بهذه الدكتورة، بل كانت نتيجة الطبيعة والبيئة المنتجة باستمرار، والمفكرة والخالقة لحلول تتغلب على الواقع المعيشي القاسي، لذلك استمرت بالكثيرين من المثقفين أمثال الأديب الكبير "ممدوح عدوان"، والمنتجين أمثال المهندس "علي أحمد" الحاصل على المركز الأول في المسابقات الإنتاجية الزراعية، وغيرهم الكثيرون.

الأستاذ محمد حسن

كما أن هذا المجتمع الفكري أو كما يقال عن أبنائه "الطير الناطق"، نطق الشعر والزجل كما قلت سابقاً، من رحم الواقع والبيئة، حتى إن ما نطق به أصبح عملاً وحرفة يعمل بها خارج القرية، ويستأنس بها داخلها، ضمن الاجتماعات والسهرات الخاصة، ومن أهم زجالي وشعراء القرية: "علي فجر"، و"محمد الأسعد"، و"خليفة"، و"نجيب حسن"، والسيدة "رحمة الراشد"، وغيرهم الكثيرون».

وفي لقاء مع الجد "عباس إبراهيم شمسو" أحد معمري القرية، بدأ حديثه معنا بطرفة ابتدعها حين سألناه عن عمره؛ حيث قال: «يمكن أن تعرف عمري عندما تعرف زمن مرور بغال تركية من هنا من أمام منزلي، لأني شاهدتها كثيراً وأعي مرورها جيداً، وأذكر أيضاً أن طبيعة العلاقات هنا بين أبناء هذه المجتمع لم تشُبها الخلافات أبداً رغم تنوعه وتعدد أصوله ما بين المسلمين والمسيحيين، والأهم من ذلك أن أجواء الطرفة والنكتة وسرعة البديهة والتعايش الرائع كان شائع الصيت بين مختلف المجتمعات المحيطة بنا، حيث كان بعض الأصدقاء من أبناء قريتي "محردة" و"السقيلبية" مثلاً يأتون لزيارتي باستمرار ويسألونني عن سر طبيعة هذا المجتمع، فأجيبهم أن الطبيعة والبيئة والتكيف والتأقلم معهما هو السر، كما أن لله في خلقه شؤوناً».

السيد تركي الشامي

ويضيف الجد "عباس": «جمالية الطقوس والعلاقة الاجتماعية الحميمة، واجتماع الناس لمساعدة بعضهم بعضاً، كانت هبة من الله، فلا يمكن لأحد أن يستقر في منزله وجاره لم ينهِ عمله، وخاصة في موسم قطاف القز وحل الشرانق الحريرية التي تحتاج إلى الجماعة والتعاون، وللعلم إن مجتمع يتعامل مع هذا الكائن الحي وهو دودة القز، لا يمكن له إلا أن يكون مجتمعاً لطيفاً ومرحاً، ليتمكن من هذا التعامل بكل نجاح، وتظهر نتائجه على أرض الواقع، فيصبح من أمهر مربي دودة الحرير على مستوى العالم وفق إحصائيات رسمية وعالمية».

أما مدرس التاريخ "محمد حسن" من أبناء وسكان القرية فتحدث عن طبيعة مجتمع قرية "دير ماما" بالقول: «أولاً القرية خليط بشري من المسلمين والمسيحيين، والتعامل فيما بين أفرادها رائع وإنساني، فالهموم واحدة والأفراح واحدة، كما أن هذا المجتمع تميز بالظرافة والليونة، وهذا واضح للعلن عبر تاريخ القرية، وجاذب لبقية المجتمعات المحيطة بنا، وأعتقد أن السبب في هذا الهجرات المتتالية ما بين الساحل والداخل، وتداخل الأنساب فيما بينها، حيث لا يمكن رسم شجرة نسب واحدة للقرية بالعموم».

في حين أن السيد "تركي الشامي" من أبناء وسكان القرية، أكد أن طبيعة مجتمع القرية الطيبة والبسيطة والمحبة والظريفة، كانت جاذبة للكثيرين من أفراد المجتمعات الأخرى ليكونوا أبناء حقيقيين في هذا المجتمع، وأضاف: «في قريتنا الكثيرون من الأهالي ليسوا من أصول ديرمامية، ولكنهم أحبوا طبيعة مجتمعنا وما شاع عنه، فرغبوا بالتملك والاستقرار فيه، فكان لهم ذلك بمحبة وطيب خاطر، وهذا أمر قلما يحدث في مجتمعات أخرى».