بين الحياة والموت محطاتٌ مرَّ بها قطار العمر سريعاً، تاركاً أثراً لا يمحى لشخصياتٍ رحلتْ جسداً وبقيتْ حروفها خالدةً على جدران الزمن. استوقفتنا حروف الأديب الراحل "سامي الجندي" وأدبه الذي سيطر عليه الحزن بجملٍ عفوية بسيطة، والذي بدا فيه مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً ببلدته "السلمية"، ومازال راسخاً في عقول قرّائه.

الراحل "سامي الجندي" الذي تحدّث قبل وفاته عن بداياته بالكتابة بقوله: "كنتُ أطمحُ أن أصبح كاتباً؛ وذلك عندما طلب معلمنا في الصف الثالث الابتدائي من زملائي أن ينسخوا وظيفة إنشاءٍ قدمتها له، كي يتخذوها مثلاً، وقال لي حينئذٍ سوف تكون كاتباً، وظلّت هذه الفكرة تواكب حياتي حتى تحققت".

في المستشفى الوطني في "السلمية" ردّد أنفاسه الأخيرة، حيث كنتُ حاضراً مع بعض أفراد أسرته وأقاربه وعلى رأسهم الشاعر "أنور الجندي"، فبكيناه بمرارة الذكرى والذاكرة، لتغيب شمس رجل كان مالئ الدنيا بحضوره اللافت، فكأنه قد سبق عصره وأبناء عصره، فرحل بصمت العظماء وكبرياء الكبار، لتُطوى صفحة تاريخية من صفحات كثيرة اقترنت به سياسياً وأدبياً واجتماعياً

مدونة وطن "eSyria" التقت بتاريخ 20 أيار 2019، "علي قنوع" مدير مدرسة متقاعد ومهتم بالشعر والأدب، الذي حدّثنا عن مسيرة حياة الراحل "الجندي" قائلاً: «إنّ الحديث عن قامةٍ سياسيةٍ وأدبية بمستوى الطبيب والأديب المتنور "سامي الجندي" تقتضي الكثير من الدّقة والشفافية، وهو الذي ولد في "السلمية" مدينة العلم والثقافة، وضمن أسرة "آل الجندي" المعروفة بحضورها العلمي والثقافي، في مطلع العشرينات من القرن الماضي، درسَ في مدرسة "الروم الأرثوذكس" في "حمص"، حيث أتقن اللغة الفرنسية، تخرّجَ في كلية طبِّ الأسنان في جامعة "دمشق"، وعاد إلى "السلمية"، حيث قام بتدريس اللغة الفرنسية، إضافةً إلى عمله كطبيب أسنان واسع الشهرة».

علي قنوع

وأضاف "قنوع": «كان لي شرف التعرّف إلى شخصيته حين درَّسَنا اللغة الفرنسية في مدرسة "التجهيز" في "السلمية" في خمسينات القرن المنصرم، حيث كان شديد الاهتمام بطلابه تربوياً وسياسياً وأدبياً، وكم كان يطلب منّا أن نجمع ما في جيوبنا من نقودٍ بسيطة لشراء كتاب نتداوله بين أيدينا، وبعد أن يقرأه جميع الطلاب كان يضعه في مكتبة المدرسة، وهكذا كان "الجندي" سبباً في اطّلاعنا على الكثير من كتب الأدب العربي والعالمي؛ وهو ما ترك لنا ذخيرةً وإرثاً في حياتنا الثقافية والأدبية كانت ومازالت محطَّ فخرنا واعتزازنا.

وفي عام 1960 التحقتُ بدار المعلمين العامة في "دمشق"، حيث كنّا نلتقي هناك وفي مقهى "الهافانا" "زكي الأرسوزي"، الذي كان يحدّثنا مطولاً عن "سامي الجندي" وإعجابه به، ويحمّلنا إليه التحيات.

الأديب محمد عزوز

وقد عُرف عن "الجندي" حماسته للوحدة بين "سورية" و"مصر"، وشغل منصب عضو في مجلس الأمة ومديراً للدعاية والأنباء في الإقليم الشمالي، ثم عُيّن وزيراً للإعلام في "سورية" عام 1963، ثم سفيراً لـ"سورية" في "فرنسا"، وكان يطلق عليه حينئذٍ لقب السفير الأديب.

تفرّغ "سامي الجندي" للكتابة في سنوات عمره الأخيرة، فصدرت له رواية "سليمان" التي تحدّث فيها عن مدينته "السلمية" مستعيراً أحد أسمائها القديمة، وبعض الأحداث والنوادر التي حدثت فيها، وسلّط الأضواء على هموم أبنائها التي هي جزء من هموم الوطن».

يتابع "قنوع": «وعن هذه الرواية كتب الأديب "محمد عزوز": "سليمان" رواية تحكي قصة فقرٍ وعشقٍ وخيبةٍ وهذيانٍ وجنون، وقد أجاد "الجندي" في تطويع اللغة لخدمة غرضه الأساسي، غرفَ من حياته الخاصة الكثير، وشارك "سليمان" بطولة العمل واقتسما التصعيد والتشويق فيها. وبالنتيجة عرض "الجندي" صوراً لإنسانٍ يحلم ويتألم؛ وفي بعض أنّاته أملٌ ببزوغ فجر جديد، كما قدم بعض الوصف لمرحلةٍ ارتبطت بفكرٍ وتصورٍ عن الوطن وأبنائه في هذا الزمن المثقل بالهموم والمتاعب.

أما الراحل "سامي الجندي"، فقد كان قد قال عن روايته "سليمان": "عسى أن تكون هذه الرواية على قد أشواقي، فقد كتبتها على غفلة من الزمن وأنا أعاني رغبة عميقة فريدة في الخلاص من عذاباتي، ووهماً غريباً بألّا نكتفي بالبقاء على أطراف الصحراء، بل أن نرودها حتى تخوم الأفق، وأن نجوب الأفق ذاته حتى لو ابتلعنا مجهوله، ولدّي أمل عظيم في ألّا تقف أي حدود أمام تأملاتنا البهية"».

وعرض الأديب والقاص "محمد عزوز" للمدونة أهم أعمال الأديب "سامي الجندي"، حيث قال: «صدرت لـ"الجندي" مجموعتان قصصيتان؛ "كسرة خبز، وأحداث في المنفى"، وفيهما اعتمد البوح بأسلوب السيرة الذاتية، أمّا مؤلفاته الأخرى، فمنها "عرب ويهود، صديقي الياس، أتحدى وأتهم طفلي"، وهي مجموعة أبحاث، وكذلك مسرحية ذهنية بعنوان: "في البدء كانت ثورة"، ودراسة بعنوان: "أراغون". ولـ"الجندي" الكثير من الأعمال المترجمة، منها: "بيت الأرواح" لـ"إيزابيل الليندي"، و"مئة عام من العزلة" لـ"ماركيز"، و"مجنون إلزا" لـ"أراغون"، و"القضية" لـ"فرانس كافكا"، و"وجها الحياة" لـ"ألبير كامو"، و"الشيطان والرحمن" لـ"جان بول سارتر"، و"خطابات إلى الأمة الألمانية" لـ"فيخته"، و"سقوط السنديان" لـ"أندريه مارلو"، و"رامة الشحاذ" لـ"أستورياس".

تنقّل "الجندي" بين عدة دول واستقر مدة في "بيروت"، وفي عام 1982 بعد أن تهدّم بيته إثر الاجتياح الإسرائيلي عاد إلى مسقط رأسه في "السلمية"، وقضى آخر سنوات حياته فيها ليرحل بصمت عام 1995».

وعن رحيله قال "علي قنوع": «في المستشفى الوطني في "السلمية" ردّد أنفاسه الأخيرة، حيث كنتُ حاضراً مع بعض أفراد أسرته وأقاربه وعلى رأسهم الشاعر "أنور الجندي"، فبكيناه بمرارة الذكرى والذاكرة، لتغيب شمس رجل كان مالئ الدنيا بحضوره اللافت، فكأنه قد سبق عصره وأبناء عصره، فرحل بصمت العظماء وكبرياء الكبار، لتُطوى صفحة تاريخية من صفحات كثيرة اقترنت به سياسياً وأدبياً واجتماعياً».

يذكر، أن الأديب الدكتور "سامي الجندي" ولد في "السلمية" عام 1921، وتوفى عام 1995.