في سيرة الناقد والفنان الراحل "موريس سنكري" محطات كثيرة، برز فيها فناناً ملتصقاً بمدينته الأثيرة "حماة"، وناقداً عميق الرؤية، يبحث دوماً عن تأصيل للهوية الفنية السورية في أعماله التشكيلية والنقدية.

ينتمي الفنان "سنكري" إلى جيل الخمسينيات الذي فتح عينيه على تجارب الغرب، وعاد ليقدم ما اكتسب برؤية شرقية عربية، ويختلف الفنان عن جيله أنه بدأ حياته الفنية من داخل البيئة الفنية الشرقية، ما خفف كثيراً من تأثره بالمدارس الغربية، خاصةً أن أبرز ركائزه الفنية كانت زيارته إلى "القدس" وحاراتها التاريخية قبيل احتلالها عام 1967 بفترة قصيرة حاجاً إلى المواقع المقدسة؛ حيث قضى شهراً هناك يراقب كيف ترسم تلك الأماكن وطبيعتها وروحانيتها بالنسبة لأهل الشرق.

للفنان الراحل تجربته الخاصة في بناء رؤية بصرية مميزة لمدينته التي أحبها، مدينة "حماة" الإنسان والمكان، كذلك اشتغالاته النقدية التي أضاءت الكثير من مجاهل الفن العربي، ومنه السوري، وتقديم دراسات في جماليات الخط العربي، والتأسيس المستمر لثقافة فنية تشكيلية مختلفة عبر مقالاته النقدية ولسنوات طوال

يتحدث الأديب "سمير سنكري"، وهو من أقرباء الراحل، لمدونة وطن "eSyria" بتاريخ 6 نيسان 2014 عنه، فيقول: «"موريس"، فنان تشكيلي وناقد فني بلغة أدبية مثقفة ومميزة، ولد في "حماة" عام 1956، وظهرت مواهبه الفنية مبكراً، فشارك في عدة معارض بأعمال فنية، حاز فيها جوائز عدة، منها: جائزة "أفضل عمل فني يدوي مصنوع من المواد التالفة" على مدارس "حماة" عن عمله "الطاووس" بإشراف الفنان "نشأت الزعبي" عام 1968، كما حصل على جائزة التصوير الأولى في معرض الشباب الأول في "حماة" عن لوحته "أنجيلا ديفز"، بعد أن خضع لدورة في مركز الفنون التشكيلية بتزكية من الفنان الراحل "إدوار شهدا"، عام 1972».

من أعمال الفنان موريس سنكري

وأثناء دراسته في جامعة دمشق - كلية الفنون الجميلة؛ عمل مع البعثات الأثرية في "حماة" وريفها، فرسم ووثق المكتشفات الأثرية فيها، ورسم مع البعثة الفرنسية أجزاء من فسيفساء "حورتي" قرب "أفاميا"، وعمل مع البعثة السورية في توثيق حمامات "أفاميا" أيضاً، حتى عام 1977، ما جعله يتغذى على المنتج الحضاري المتعدد للحضارة السورية، فعمل على تقديمها تشكيلياً، وتجلى ذلك في عدة معارض فردية لاحقاً.

تخرج في "قسم النحت" عام 1979، وانتقل إلى تدريس طلاب "حماة" مادتي "التصوير وتاريخ الفن" في مركز الفنون التشكيلية، الذي كان له الفضل في انطلاقته الفنية، وبقي حتى رحيله مساهماً دائماً في معارض وزارة الثقافة، إضافة إلى وجوده الدائم في معارض الفن التشكيلي، فقدم معارض ثنائية (مع "سهام منصور" عام 1996، ومع "راينر غرير" عام 2000، وآخرين)، كما قدم ثلاثة معارض فردية بين العامين 1997، و1999».

من أعماله أيضاً

ويضيف: «بدأ منتصف الثمانينيات كتابة النقد الفني، كما يقول الفنان الدكتور "نزار صابور"، غطى أثناءها أكثر من مئة معرض وفنان تشكيلي سوري، بلغة أدبية خاصة في صياغة العمل النقدي الذي يصل إلى من ينقده بشكل سهل ومهذب، حيث قدم أعمالاً نقدية ودراسات عن صيرورة الفن التشكيلي في عدد من البلدان العربية، فكانت المجلات الدورية لا تخلو من دراسة فنية له، أعطته هذه المكانة الأدبية من خلال عملية النقد الفني الذي كان يمارسه فعلاً.

وقد نشر هذه الكتابات في الصحف والمجلات الفنية، كما كتب سلسلة "رواد الفن التشكيلي"، نشر منها في مجلة "الحياة التشكيلية" عن العديد من الفنانين أمثال: "سهيل الأحدب، شريف أورفلي، عبد اللطيف المصمودي"، وآخرون. كما قدم كتابين نقديين لاحقاً هما: "لوحات مفصلية في تاريخ الفن" عرض فيه أبرز اللوحات في تاريخ البشرية، وكتابه الثاني "وصل في النور" تناول فيه الخط العربي في تحولاته الزمانية والفنية، وصولاً إلى التطعيم التشكيلي العربي الحديث للخط في اللوحة، ومن أبحاثه المهمة "رحلة الحروفية العربية"، ونشره في مجلة "الوحدة" المغربية عام 1989».

من أواخر أعماله

أسس "سنكري" أيضاً إحدى التجارب السورية المميزة، وهي مراسم الفنانين في حي "الطوافرة" الأثري في "حماة"، فقام بتصميم وتنفيذ العمارة والديكور فيه، واليوم يشكل هذا الحي أهم مواقع الفن التشكيلي في المدينة، كما يقول الكاتب "سنكري": «فقد ترجم الحالة التراثية والأوابد في "حماة"، ترجمة فنية واعية من خلال لوحاته التشكيلية المميزة، التي ميزته عن غيره من فناني "حماة" التشكيلين، وخصص معارض عدة، استخدم فيها أزقة وحارات حماة القديمة لتتوهج لوحاته من خلال عرضها في هذه الأحياء التاريخية القديمة التي تدل على عراقة "حماة" وأصولها وموقعها الفني والحضاري في تاريخ "سورية"».

وللراحل جهود معروفة في تأسيس عدة خدمات للفنانين التشكيليين في "حماة"، منها تأسيس "الجمعية السكينة"، وتأسيس وإشهار صالة "السيد" للفنون التشكيلية، كما كان له حضور في عالم التصميم، فصمم العديد من بروشورات المعارض، وديكورات الأفلام والمسرحيات، ومنها عمله ديكور فيلم "الترحال" للمخرج "ريمون بطرس"، عام 1996، وعمله مع المخرج "سمير الحكيم" في عدة أعمال مسرحية، منها مسرحيته "الرجل الذي صار كلباً"، عام 1994، و"البحث عن نوفان"، عام 2001.

بدأ الراحل مطلع عام 2009 تجربة فنية جديدة، هي العمل على الوجوه، بصياغات وتقنيات جديدة، فأنجز معرضاً كاملاً لم يقدمه للجمهور، واستمر في عمله حتى فارق الحياة. أعمال الفنان موزعة بين وزارات الدولة، إضافة إلى مجموعات خاصة في عدة دول حول العالم، كما شارك خارجياً في ندوات دولية، فقدم عدة أبحاث، منها بحثه المعنون "الفن والاستهلاك في فنون القرن العشرين" في الندوة الفكرية لبنيالي "الشارقة"، عام 2005، وبحثه الآخر "الفن والعولمة" في عام 2007 لنفس الملتقى.

في شباط 2014، غادرنا الفنان "سنكري" وفي جعبته الكثير من الأعمال الفنية والنقدية، يقول الفنان التشكيلي "عبود سليمان" عنه: «للفنان الراحل تجربته الخاصة في بناء رؤية بصرية مميزة لمدينته التي أحبها، مدينة "حماة" الإنسان والمكان، كذلك اشتغالاته النقدية التي أضاءت الكثير من مجاهل الفن العربي، ومنه السوري، وتقديم دراسات في جماليات الخط العربي، والتأسيس المستمر لثقافة فنية تشكيلية مختلفة عبر مقالاته النقدية ولسنوات طوال».

قدم الناقد والإعلامي "محمد قوجة" قراءة في مشروعه، فقال: "كان يحاول أن يؤسس لمشروعه النقدي التشكيلي بطريقة مغايرة لمَا يسمى (النقد التشكيلي) السائد، قرأ التاريخ بعين متفحصة فأثرى بحثه الذي أخذ منه الوقت الطويل، فلا يركن لما هو سائد، يقدم شخصياته بوعيهم المتوهج في ذاك الزمان الموغل في القدم، يستعيد ذاكرة التاريخ ليقدم لنا رؤية في علم الجمال والتذوق الفني في زمن تطغى على سطحه البشاعة والقبح".

المصادر:

1ـ محمد قوجة، مقال له في رثاء الراحل في جريدة "الفداء" الحموية في 5 شباط 2014.

2- مجلة الحياة التشكيلية، وزارة الثقافة السورية، أعداد مختلفة.