الملك العالم، الأديب الشاعر، السياسي المحنّك، الشجاع المجاهد، الذي استطاع بحنكته وصبره ودرايته وشجاعته، أن ينتزع الفريسة من فم السبع، فقد رأينا كيف استطاع أن يستعيد ملك حماة.

وأن يعيد المملكة الأيوبية إليها بعد أن أُبعد عنها اثنتي عشرة سنة، وأن يخرج منها عاملها (أُسُنْدمُر) مُرغماً.

كان المماليك قد قضوا على الدولة الأيوبية في مصر في سنة 648هـ، وقضوا عليها في الشام في سنة 658هـ ، وأصبح سلطان مصر من المماليك هو سلطان مصر والشام معاً، وكان يرسل مَنْ حوله، من أمراء المماليك نواباً عنه إلى مدن الشام كدمشق وحمص وحماة وحلب والكرك والساحل، وكانت حماة مطمحَ أنظار هؤلاء الأمراء نظراً لتوسطها بين بلاد الشام ولتقدمها العمراني والعلمي والاقتصادي بفضل الملوك الذين تعاقبوا عليها من آل أيوب، وقد رأينا كيف أنّ (أسندُمُر) قد رفض أن ينتقل منها إلى نيابة الساحل مع أنّ بالساحل مدناً عامرة كثيرة كبيروت وطرابلس واللاذقية وغيرها، كما أنه لم ينتقل منها إلى نيابة حلب إلاّ مُرغماً.

أبو الفداء الذي استطاع أنْ يعيد المملكة الأيوبية إلى حماة، كانت له اليد في مدّ عمـرها فيها إلى سنة 742هـ ، أي إلى بعد نحو قرنٍ من الزمان من انقراضها في مصر فكيف تسنّى له ذلك وسط تلك الغابة من أمراء المماليك المتسلطين في ذلك الوقت؟ لا ريب أن ذلك يعود إلى الصفات الفذّة التي كان يتحلّى بها، وإلى البيئة التي نشأ فيها.

لقد كان أبو الفداء منذ صغره مولعاً بالعلوم والآداب، حفظ القرآن الكريم ودرس الفقه والتفسير والنحو والمنطق والطبّ والتاريخ والعروض، وكان عاقلاً حكيماً، خلوقاً كريماً، شجاعاً، وقد رأينا كيف اشترك في حصار قلعة المرقب وفتحها وهو في الثانية عشرة من عمره، كما اشترك في فتح عكا وقلعة الروم، وفي الإغارة على بلاد السيس (الأرمن)، وفي سـنة 702هـ أغار التتار على القريتين شرقي مدينة حمص، فاختاروه لقيادة فرقة من الجيش لردّ التتار عن القريتين، وذلك قبل أن يصبح ملكاً لحماة، فنجح في مهمته نجاحاً كبيراً، إذْ ردّوا التتار إلى حدود الفرات، وقتلوا منهم عدداً كبيراً، كما كان سميراً و رفيقاً لابن عمه الملك المظفر الثالث فكان يرسله سفيراً إلى السلطان، كما كان يصطحبه معه في رحلاته وغزواته وصيده، حتى إنه كان رفيقه في رحلة صيده الأخيرة التي وصلا بها إلى قرب (قسطون)، ومرض الملك المظفر على أثرها وتوفي في سنة 698هـ ، كما مرض أيضاً أبو الفداء حتى أشرف على الهلاك ثم شفي وعوفي.

والسلطان الناصر، سلطان مصر والشام، كان يطلبه إليه في القاهرة، بعد أن أصبح ملكاً لحماة، ليكون سميراً له في مجلسه، ورفيقاً له في صيده.

وعندما ذهب إلى الحج اصطحبه معه، ومن شدة إعجابـه بـه، بعد أن ولاّه نائباً له في حمـاة في سـنة 710هـ ، وجعله ملكاً عليها في سنة 712هـ، ثم سلطاناً في سنة 720هـ ، كل ذلك يدل على مدى ما كان يتحلى به أبو الفداء من الآداب والعلوم والأخلاق، حتى إنه لشدة كرمه وعزته بنفسه كان يقبل هدايا السلطان وصدقاته، ولكنه كان سرعان ما يرسل إليه مقابلها بالهدايا والتقدمات.

نشـأ أبـو الفداء في عائلـة ملكية أسّسها السـلطان صـلاح الدين الأيوبي منذ سـنة 569هـ ، وكان والده وأعمامه وأولاد عمه وجده من أقوى ملوك هذه العائلة وأعقلهم وأحكمهم، فمن الملاحظ في سيرتهم أنهم يلتزمون جانب السلطان الشرعي دائماً، وما كانوا يستجيبون لدعاة الثورة والانقلاب، ففي أيام الملك العادل أخي صلاح الدين، بعد أن استتبَّ له الأمر في مصر والشام ثار عليه ابنا أخيه الظاهر والأفضل، وطلب من المنصور الأول صاحب حماة أن ينضم إليهما فرفض، وفي زمن الملك الكامل بن العادل انتقض عليه أخوه الأشرف موسى والناصر صاحب حلب وشيركوه صاحب حمص، وطلبوا من المظفر الثاني محمود صاحب حماة أن ينضم إليهم فرفض، وفي زمن الصالح أيوب صاحب مصر تحالف على حربه الصالح إسماعيل صاحب دمشق وإبراهيم بن شيركوه صاحب حمص والناصر صاحب الكرك والفرنج، وطلبوا من المنصور الثاني محمد صاحب حماة أن ينضم إليهم فرفض، وكذلك في أيام سلاطين المماليك، كان ملوك حماة يلتزمون دائماً جانب السلطان الشرعي في مصر عندما يثور عليه نوّابه في مدن الشام، وفي معركة عين جالوت بين المسلمين والتتار كان المنصور الثاني محمد صاحب حماة يحارب بجيشه مع (قطز) سلطان المسلمين بينما كان الأشرف موسى بن إبراهيم بن شيركوه صاحب حمص يحارب في صف التتار، ولكنه انسحب بجيشه أثناء المعركة وانضم إلى المسلمين فعفا عنه قطز، كل ذلك جعل السلاطين يثقون بملوك حماة ويحترمونهم ويقدرونهم، وجعلهم يسمحون لهم بالاستمرار في ملك حماة إلى سنة 742هـ بينما أخرجت سائر البلاد من ملك الأيوبيين.

وأول ملكٍ من الأيوبيين ملك حماة كان المظفر الأول تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب، ملّكه إياها عمه صلاح الدين سنة 582هـ=1186م ، وكان صلاح الدين يحبه كثيراً لأنه كان شهماً شجاعاً، ساعد عمه صلاح الدين في حروبه كلها، حتى إن ابنه أحمد قد استشهد أمام صلاح الدين في موقعة عسقلان في جمادى الأولى سنة 573هـ لذلك أعطاه حماة ومنبج والمعرة وميافارقين وسلمية وجبلة واللاذقية وديار بكر وحرّان والرها، وفي معركة حطين كان جيش حماة بقيادة المظفر الأول في ميمنة جيش المسلمين، وقد أصبح هذا تقليداً بعد ذلك، إذْ كان جيش حماة يشغل دائماً ميمنة الجيوش الإسلامية المجاهدة، والمظفر الأول هو الذي فصل قلعة حماة عن تل الباشورة وأحكم سورها وعمّق خندقها.

وقد توفي المظفـر الأول يـوم الجمعة 19 رمضان سنة 587هـ أثناء حصاره (منازكرد) في شرقي الأناضول، فحمله ابنه المنصور الأول محمد وعاد به إلى حماة حيث دُفن في تربته بباب الجسر والتي بنى عليها بعد ذلك أبو الفداء جامعه المعروف وتولى بعده ابنه المنصور الأول محمد، وهو الذي بنى سوق المنصورية (السوق الطويل) وبنى جسر المراكب (جسر السرايا) وعمّـق خندق القلعة وبنى سورها من الحجر، ولـه كتـاب (المضمار في التاريخ) و(طبقات الشعراء).

توفي في ذي القعدة سنة 617هـ، وقد تولى بعده ابنه المظفر الثاني محمود بعهدٍ من أبيه، وكان عند وفاة أبيه في مصر عند الكامل بن العادل، فاغتصب المُلْكَ أخوه الناصر قَليج أرسلان، لكن الملك الكامل سار إلى الشام وأعاد المظفر الثاني ملكاً على حماة، وأعطى أخاه الناصر مدينة (بعرين)، وقد بنى المظفر الثاني قلعة المعرة كما بنى سوراً لمدينة حماة خارج القلعة، أصيب بالفالج في سنة 637هـ وتوفي سنة 642هـ سنة 1244 م وتولى بعده ابنه المنصور الثاني محمد وعمره عشر سنوات، وفي زمنـه حدثت موقعة عين جالـوت، وقد أبلى فيها بلاءً حسناً وكان بجيشه على ميمنة الجيـش الإسلامي، وفي سـنة 664هـ غزا بلاد السيس بأمر من السلطان الظاهر بيبرس .

وفي سنة 668هـ زار الظاهر بيبرس الملك المنصور في مدينة حماة، وأصيب الملك المنصور الثاني بالحمى وتوفي في شـوال سـنة 683هـ/ 1284م، وتولى بعده ابنه الملك المظفر الثالث محمود الذي اشترك مع السلطان قلاوون في فتح قلعة المرقب ومدينة طرابلس، ثم اشترك مع الملك الأشرف خليل في فتح عكا، كما شارك في غزو بلاد السيس، وفي ردّ التتار عن حلب، أصيب بالحمـى وتوفي يوم الخميس 22ذي القعدة سـنة 698 هـ / 1298م بدون أن يخلف عقباً تولى حماة بعده نيابة عن السلطان (الأمير قَرَة سُنْقُر الجوقدار) من سنة 698هـ-699هـ، ثم الأمير (كِتِبْغا المنصوري) من سنة 699هـ-702هـ ، ثم الأمير (سيف الدين قَبْجق) من سنة 703هـ-709هـ ، ثم الأمير (أسندمر كرجي) من سنة 709هـ-710هـ ، وعادت بعدها إلى أبي الفداء ملك حماة من سنة 710هـ-732هـ ثم تولاها ابنه الملك الأفضل محمد من سنة 732هـ-742هـ حيث عُزل بسبب سوء إدارته وكثرة الشكاوى ضده من الأهالي والفلاحين ، فوصل إلى دمشق وتوفي بها بعد بضعة أشهر في ليلة الثلاثاء 11 ربيع الآخـر سـنة 742هـ ، فنقل إلى حماة ودفن في جوار أبيه .