«لم يبق في "البيضا" حجر أو شجرة لم يكتب عنها "نزار الموسى" قصيدة، وإن كانت قرية "البيضا" سيخلدها التاريخ يوماً ما، فبزجله وحنينه إليها، وكأنه أخذ على عاتقه هماً واحداً لا سواه غيره.. "البيضا"». هكذا وصفته الأديبة "رواد الإبراهيم" ابنة هذه القرية التي تقع على مسافة قريبة جداً من مدينة "مصياف".
كيف لا يخلدها وهو من قال فيها:
عم تمشي عا أرضا اللطيفة دروبنا/ عطّر هواها تيابنا وجيوبنا/ ومع كل هيدا منشعر البيضة متل/ قطعة سما حملت قمر بقلوبنا.
الشاعر "نزار الموسى" من مواليد عام 1948 ابن مدينة "البيضا" البار، لم يشأ أن يغيب عن قريته في مهرجانها الثالث، كما هو لم يغب عنها في كل أفراحها وأتراحها، التقاه موقع eSyria في مكان إقامته الصيفي في بلدة "البيضا" بتاريخ 19 آب 2009 وكان لنا معه الحوار التالي:
** لم أختر الزجل أو الشعر، بل وجدت الزجل هو من ينطقني، نظرت في عيون وآذان الناس فوجدت أن الزجل هو الأقرب إلى قلوبهم فأحببت أن أستمر في هذا الخط قريباً منهم.
** باعتبار أن أغلب الزجل مغنى فإنه يحافظ تلقائياً على الوزن، للزجل قواعد وبحور وأهم بحوره هو البحر الوافر باعتباره مغنى؛ أما الشعر باعتباره ستة عشر بحراً فإنه قد يكون لبحر معين تأثير ما على روحية النغم في الوصول إلى أذن السامع ومن أذنه إلى قلبه، من الممكن أن يلاقي الإنسان صعوبة في تفهمه، بالحقيقة أن لكل منهم (الشعر والزجل) خصوصية ويجتمعان في أنهما يخاطبان العقل والروح.
** الزجل هو كلام حلو، وهو يستمد مفرداته من البيئة البكر، في الريف يوجد طبيعة لها خصوصية، وأنت تخاطب أناساً يعيشون في نطاق هذه الجمالية، مما يسهل عملية الوصول إليهم، لذلك خلال إقامتي في "دمشق" ألاقي صعوبة في كتابة الزجل، وأفضّل ألا أكتب حتى لا أشعر السامع بالاختناق الذي أعيش فيه، وأفضّل الكتابة في الجبل والعرزال، حيث تخونك الكلمة عندما لا تكون الطبيعة حاضرة؛ وبالرغم من أن "دمشق" فيها تبادل ثقافي متنوع وتطرح في نشاطاتها مواضيع تبادلية أكبر كثيراً من المواضيع التي تطرح بالريف، الطرح في "دمشق" أفضل، ولكن يبقى للروح جانب آخر قد لا تجده في العاصمة، وقد تحرقك الغربة فتخلق لدى الزجّال حنيناً يشده، الغربة هي قاموس تفتحه لتتذكر كلماتك الحقيقية النابعة من القلب.
** الفكر ليس له وسائل نقل محدودة وليس مقيداً لا بالفصحى ولا بالزجل، ليس المهم نقل الفكر بقدر ما هو مهم أن يستطيع السامع فهم الطرح الذي تريده، وإن كان للشعر طقوسه الخاصة، أما الزجل فإنه يدخل في كل مجالات الحياة، وكإجابة على الجزء الثاني من سؤالك أقول أن "الأخوين رحباني" وصلوا بالزجل إلى طرح مواضيع تاريخية وسياسية كبيرة.
** التنوع مطلوب، وأيضاً من غير المعقول أن تطلب من ابن الفرات أن يقول زجلاً بلهجة "مصياف" أو "مشتى الحلو"، إذ إن لكل منطقة شعراً شعبياً هو الأسهل بالدخول إلى قلب الناس من الشعر فلا يحتاج إلى جواز سفر.
** يمكن أن يتفتح الزجل على كبر، ولكن حتى يظل الزجل يمشي ويستمر دون صعوبة عليه أن يبدأ من الصغر، الظروف وضغوط الحياة تفجر منابع الزجل، أما الزجل الذي يخلق على كبر فهو نتاج تجمع كلمات عارك الإنسان فيها الدهر وسجلها في ذاكرته، وهي ليست موهبة.
** الزجل تخلقه قصة، قد تكون قصة حب أو وفاة، وهو ما يعطي للزجل قيمة إنسانية، وتمنحه أدوات أغنى ليعبر فيها عما يريد، وإن كان للحب والطبيعة ارتباط بالزجّال، ولكنك تشعر في لحظة معينة أنك لست ابن القرية بل أصبحت ابناً للوطن كله.
** أنا بالأساس ابن "البيضا"، ومشاركتي بالمهرجان كانت عبارة عن وصف "البيضا" بشريط مصور يبدأ منذ دخول الضيعة وحتى الخروج منها، أمرُّ فيها على أغلب المناطق التي تربط بين "البيضا" والمناطق الأخرى في القطر، بالإضافة إلى وصف بعض المناطق التي كانت موجودة سابقاً ولم تعد موجودة حالياً كالتنور والطاحون، جميل أن يربط الإنسان الحديث بين وسائل الحياة الحديثة كالانترنت والموبايل وأن يعرف أن والده وجده كان يعمل في الطاحون.
شاركت أيضاً مع الأطفال في عدد من المسرحيات خلال أيام المهرجان، كنّا في السابق نجعل الطفل يمثل ما نريده، أما اليوم فقد طلبنا من الأطفال أن يقترحوا ما يريدونه هم، ووجدت تجاوباً من الأطفال فاق ما توقعناه منهم، لذلك عملت معهم أربع مسرحيات ثلاث منهم زجليات وواحدة باللغة العربية الفصحى، وشاركت أيضاً في أمسية شعرية في ثاني أيام المهرجان.
ونختم هذا اللقاء بمقطع من أجمل ما كتبه الشاعر "نزار موسى" عن بلدته "البيضا":
لا تسألني لشو سمّوها بيضة/ لا تسألني طويلة أو عريضة/ سألني شو ترك حبّا بقلبك/ بقلك ترك أكتر من فريضة/ ترك معبد صلا وحياة ربك/ بيصحي الروح لو كانت مريضة/ ترك وهجة شمس والريح تهلك/ لحتى تلطفا ويبرد وميضا/ ترك عينين تحت جبين يضحك/ تاتمحي من الدني هموما البغيضة/ إذا سوّد الدهر والهمّ لبّك/ تاصارت صفحتو سودة لا تمحي/ تعى لعنّا بتقلب دغري بيضة.