ليست قصة مدينتين، إنها قصة مدينة واحدة، مدينة حماه والتي يشطرها نهر العاصي إلى قسمين، شمالي باتجاه مدينة حلب يسمى (الحاضر) وجنوبي باتجاه مدينة حمص يسمى (السوق).

عندما تتحدث عن (السوق والحاضر) في حماه فإنك تزرع الابتسامة على شفاه الجميع، فالقصة باتت من التاريخ، ولكنهم يحبون تذكرها أحياناً، فيقولون عن الذي يكون خشن الطباع، (حواضري) نسبة إلى الحاضر، وعندما يجاملك أحدهم وينمق حديثه، يقولون عنه (سوقي) نسبة إلى منطقة السوق.

ويذكر أن خلافاً ما كان يدور باستمرار بين هاتين المنطقتين، فكانوا يتشاجرون كثيراً، ودائما كان وجهاء المدينة يتدخلون لفض النزاع، فتعود المدينة إلى الهدوء، ويعود أهل المدينة أحباء من جديد. ويعود ذلك إلى اختلاف طريقة اللباس، وبعض العادات واللكنة، فأهل السوق كانوا يلبسون (الشروال) وأهل الحاضر كانوا يلبسون (الجلابية)، فيميزون العابر من أحد المنطقتين عبر ثيابه، كما أن طريقة الحديث تختلف فابن الحاضر يروي لك الحديث بطرق أكثر شعبية.

عبد الجبار سرميني

وقد سميت هاتان المنطقتان نسبة إلى أسواقها، ففي منطقة الحاضر هناك (سوق الحاضر) وهو سوق غذائي بامتياز، يأتي سكان الريف والبادية إلى هذا السوق ليبيعوا منتجاتهم فيه، فكان الناس يأتون من كل محافظات القطر إلى الحاضر لشراء السمنة الحموية (العربية)، و(القريشة)، والجبن المصنوع من حليب الأغنام، كما تتركز الحاضر جزء هام جداُ من الثروة الحيوانية في سورية، ومن حماه يخرج أسبوعياً العديد من الشاحنات إلى دول الخليج العربي على سبيل التصدير.

الشاب "أحمد لطوف" 23 سنة قال: "أنا (حواضري) .. هذه التسميات صارت هذه الأيام من التاريخ، ولكن يتركز في منطقة الحاضر عموماً أسواق الغنم، ومنتجات الألبان، كونها قريبة من البادية، كما أنه يوجد ما يسمى سوق الحاضر الكبير الذي يحوي على كل أنواع السلع الغذائية التي من الممكن أن تفكر بها ومن الممكن أن تجد لبن العصفور فيه و يقابله في منطقة السوق سوق الحاضر الصغير وهو عبارة عن سوق صغير لبيع الخضرة وبعض اللحوم. أما في منطقة السوق، فتتركز أسواق الملابس والمحال التجارية في منطقة (الدباغة) و مخازن باعة الجملة في منطقة (المرابط) كذلك سوق الملابس في شارع ابن الرشد.

مصطفى الهلالي

السيد "عبد الجبار سرميني" 68 عاماً حدثنا عن قصة الصراع القديم بين السوق والحاضر قائلاً: "كانت هناك عداوات بين الرجال على ضفتي النهر، فكانوا أحياناً يتقاتلون بدون سبب، وأحياناً بسبب بعض المضايقات التي يتعرض لها أحدهم عندما يزور منطقة الآخر، إلا أنهم في أيام الأعياد والمناسبات القومية كانوا يد واحدة فكان يخرج أهل الحاضر أيام الأعياد على الجمال ويلبسوا (العميرية) وهي عبارة عن جلابية مطرزة بالذهب الخالص، وكانوا يرقصون في الساحات العامة ويقيمون حلقات الدبكة، أظن أن المشاكل التي كانت تحدث بين السوق والحاضر ما هي إلا من آثار للمستعمر الفرنسي."

أما السيد "مصطفى الهلالي" 55 سنة فقال: "أثناء عملي سافرت من مدينة حماه إلى ألمانيا واستقريت في مدينة تدعى (مايز) وهي مدينة يقسمها نهر الراي إلى شطرين، ومن خلال اختلاطي بأهالي هذه المدينة، علمت أن شطري المدينة هي نسخة عن ما كان يدور في السابق بين الحاضر والسوق في مدينة حماه، عندئذ شعرت أني لم أخرج من مدينتي".

ويصل حالياً بين هذين المنطقتين جسرين كبيرين، الأول هو جسر السيد الرئيس، والثاني هو جسر العبيسي والذي قامت محافظة حماه هذا العام بتوسعته ليتضاعف حجمه، وليساهم بشكل فعال في حل أزمة السير.

ليس عليك عندما تزور حماه أن تحدد اتجاهك .. هل أنت (حواضري) أم (سوقي)؟

فهذه العصبية زالت تدريجياً كغيرها من العصبيات التي تنتج عن جهل مسبق بالطرف الآخر، ولكن اختلاط ابن السوق بابن الحاضر، وتعرفهما على بعضهما جيداً، جعلهما يكتشفان أنهما ليسا سوى أبناء مدينة واحدة، مر فيها يوما ما نهر العاصي، فحولها إلى جنة.