فنّ لغوي مكوّن من عدة ألفاظ بسيطة ومعبرة، دخل حياتنا ليواكب سرعة العصر، تناوله الشاعر "عصام زودي" بإحساس هائل ورؤية مشهدية جميلة، ليقدمه كوجبة غنية.

يعدّ "الهايكو" نمطاً شعرياً جديداً، يحاول الشاعر التعبير عن رؤاه ومشاعره بألفاظ بسيطة ومعبرة، وقد دخل حياتنا ليتناسب وإيقاعها السريع الذي نعيشه، وله متابعوه ومحبوه، كما قال للشاعر "عصام زودي" الذي تواصلنا معه بتاريخ 20 تشرين الثاني2017، وأضاف: «هو نمط انتشر كثيراً عبر مواقع التواصل الاجتماعي، حيث سمعت عنه، لكنه لم يعجبني، وعندما بدأت أستمتع بالقصص القصيرة جداً استهواني.

هو نمط انتشر كثيراً عبر مواقع التواصل الاجتماعي، حيث سمعت عنه، لكنه لم يعجبني، وعندما بدأت أستمتع بالقصص القصيرة جداً استهواني. "الهايكو" منبعه ياباني، وهو شعر الرهبان البوذيين الذين ينغمسون بالطبيعة، وأنا لا أؤمن باللقطة الضوئية إن لم تكن خلفها عبرة، ومقولة "الهايكو" هي الروح الناطقة والمقولة التي لا تحمل تلك الروح، هي لوحة للمتعة فقط

"الهايكو" منبعه ياباني، وهو شعر الرهبان البوذيين الذين ينغمسون بالطبيعة، وأنا لا أؤمن باللقطة الضوئية إن لم تكن خلفها عبرة، ومقولة "الهايكو" هي الروح الناطقة والمقولة التي لا تحمل تلك الروح، هي لوحة للمتعة فقط».

من منشوراته في مجلة الهايكو

وعن علاقته مع الشعر قال: «أنا من بيئة سورية ريفية بامتياز، حيث الطبيعة الجميلة الجبلية. كل ما أكتبه هو مخزون مشهدي لما عشته في طفولتي ومراهقتي وسنوات عمري الأولى، وربما افتقدنا بعضها في المدينة، لكنها باتت مخزوناً معرفياً ومشهدياً رافقني إلى أن تجاوزت الخمسين. درست الأدب الإنكليزي مع حبي للشعر بألوانه وبكل اللغات. أنا أكتب الشعر الموزون، وعلى الأغلب التفعيلة، والشعر الخاص بالأطفال، واحترفت كتابة سيناريو الأفلام القصيرة، ولم أعرف شعر "الهايكو" إلا عام 2013، وليس من منبعه الياباني، إنما كنت أتابع -وما أزال- كُتابه العرب، فهم عرّفوني بهذا الشعر المقتضب التصويري المشهدي، حيث كنت أتابعهم وتعلمت منهم، والفضل للأساتذة الكبار كـ"محمود الرجبي"؛ إذ يُعلّم الجميع، فهو مدرسة، وحافظ على المجاز اللطيف الذي استخدمه اليابانيون، و"هالا الشعار"، و"شفيق درويش"، و"حسن رفيقي"».

دراستي للأدب والفلسفة ساعدتني، فكثيراً ما كنت أقع في الصور التي ذكرها الصوفيون، لكن لم أتورط بالنشر إلى أن وصلت في السنة الأخيرة إلى البساطة بكل شيء، فلم يعد القالب يهمني، ولا أشكو نقد الآخرين، ووصلت إلى المصالحة مع كل المدارس التي يتبعها الجميع، لأن "الهايكو" العربي أثبت أنه مختلف ويجب أن يكون مختلفاً عن الياباني. شجعني الشاعر "شفيق درويش"؛ فهو ابن قريتي، ووجدت عنده صورة مخبأة خلف الكلمة، وصرت أحاكيه بذات الطريقة، لكنه بقي متفوقاً فلسفياً. وأنا اتجهت إلى الكلمة البسيطة وما تخفيه من وقع معرفي أو تراثي، وهذا ما حدد لي منحى ومساراً مغايراً».

من مقطوعاته

وعن سبب ظهور هذا النوع الشعري في مجتمعنا، وعبر مواقع التواصل الاجتماعي بشكل خاص، قال: «هذا النوع من الشعر وجبة غنية؛ الكلمة وما تحمل، والعدد المحدود للكلمات سبب انتشاره، ويجب أن يحكي أكثر بكثير من كلماته المحدودة، وكثافة الصورة مناسبة لهذا العصر وفي الوقت نفسه معبرة، فهو روح قبل أن يكون قواعد أو شروطاً أو بنية أو تركيباً أو إيقاعاً، هو حالة رؤية عابرة، لكنها خالدة في تأثيرها بك إلى الأبد، هو الذي يتحرك نحوك ولا ينتظر قدومك إليه، تماماً كسمكة تنتقل من بحر إلى بحر بانتظار من يمد الشبكة أو الصنارة لاصطيادها، كقولي:

"زَوبَعَةُ غُبَارٍ، بِلا يَدِ جَدَّتِي مِغزَلُ الرِّيحِ،

شَجَرَةٌ عَارِيَة، ضَفَائِرُ اللبلابِ تخفِي قُلُوبَ العَاشِقِين،

نَهرٌ مَوحِلٌ يَكفِي مِنَ النَّقَاوَةِ مَا لا أَرَى"

الشاعر لا يضع أي شكل للقصيدة في داخله عند الإبداع، ولا يفكر بأي شروط محددة، وإلا لأصبحت القصيدة عملية نظم رديئة وإبداعاً كاذباً مفتعلاً، القصيدة تأتيك بأجنحة الأحاسيس المدهشة، وليست سلحفاة ترتدي قوقعة القوالب المتحجرة، فالقوالب قد تعطي السلحفاة الحماية في وقت ما، لكنها تمنعها الحركة والتحليق، أنا أكتب وأعشق "الهايكو"، وأكتبه كما أريد أن أراه وأومن به، كقولي:

"إلى حِينٍ يَسبَحُ مَعَ التَيَّارِ سَمَكُ السَّلَمون

طَرقَةٌ طَرقَةٌ

إِلَى دِفءِ السِّندِيَانِ يَنتَهِي المسمَارُ"».

وتابع بالقول: «استفدت من النقد الذي يكشف مكامن الضعف والقوة في المشهد، والقصيدة وحدها من يفرض ذاتها، فتخرج تقليدية تحمل كل الشروط أو بعضها، أو تخلو منها تماماً، أو تكون مزيجاً وتداخل بعض الخصائص ببعض، باختصار شديد القصيدة ترفض أن يتحدث أحد باسمها، فهي أفصح منا جميعاً. ونحن كشعراء نتمنى أن يلقى هذا النوع الشعري الاهتمام، وحالياً هناك مجلة "الهايكو" الإلكترونية التي يرأسها الشاعر والناقد "محمود الرجبي"، وتتابع المجلة كل الشعراء العرب، حيث تقدم الأعمال بقالب جميل مرفق بالرسم، وهناك قراءات تأويلية لي في الأعداد الأخيرة».

الناقد والشاعر "محمود الرجبي" أحد المخضرمين بشعر "الهايكو"، تحدث عن رأيه بقصائد الشاعر "عصام زودي"، فقال: «لا توجد حقيقة ثابتة في هذا النوع من الشعر، إلا حقيقة واحدة تماماً كالماء النقي، وعلينا أن نتذكرها دائماً؛ وهي أنه شعر وصف في الأساس، حيث يعتمد قدرة عينيك على إرسال الإشارة إلى عقلك أو قلبك، حسب حالتك النفسية وثقافتك المتراكمة، وزاوية الرؤية الداخلية والخارجية التي تقف عندها، وتنظر إلى ما يحدث لحظة رؤيتك لمشهد ما أو تخيله، فيعمل العقل أو القلب من دون تدخل منك بإعادة النظر مرة أخرى، وتحليل الرموز والإشارات التي وردت من البصر في حالة الرؤية المباشرة، أو من البصيرة في حالة التخيل، وبطريقة سريعة ومعقدة تولد (رؤية) خاصة بك، قد تقتلها لغتك فوراً، أو تحييها إلى الأبد؛ لذلك أرى أنه فن لغوي بامتياز، يسبح ويعوم ويغطس كما يشاء في بحر اللغة، فإذا كانت اللغة هي جسد "الهايكو"، فإن الوصف عيناه ويداه، أمَّا من يظن أنه ليس أكثر من صورة وعملية نقل وعرض من دون معنى، فهو يطلب منا أن نتحول إلى آلة تصوير تلتقط الصورة كما هي من دون إحساس أو تمييز للجمال، باختصار شديد إنه يدعونا إلى الموت مللاً وبلا فائدة.

و"زودي" شاعر "هايكو" محترف يتميز بإحساس هائل تجاه الأشياء العابرة التي لا ينتبه إليها أحد، إنه جسد محلق بعيني صقر وقلب حمامة، كقوله:

"جَلسَةُ يُوغَا

لَولاكِ أَكَادُ أُعتَقُ يَا رَائِحَةَ العِشبِ، حُدُودٌ

خًطوَةٌ وَتَنتَهِي رِحلَةُ الألف مِيلٍ

فِي الطّرِيقِ القَادِمُ مِنَ العُمرِ يرميني بِحَجَر"».

يذكر أن "عصام زودي" من مواليد قرية "برشين" التابعة لمحافظة "حماة"، عام 1965.