اشتهر فن النحت في حضارة وادي الفرات منذ الألف الثالث قبل الميلاد في موقع "ماري" الأثري، تعبيراً وتجسيداً عن حالة صاحب التمثال سواء الدينية أو الثقافية أو السياسية.

امتاز فن النحت في "ماري" بالاتجاه الواقعي لتناول النحات في ذلك الوقت الحياة اليومية والطقوس الدينية، إضافة إلى نحت الكهنة والملوك والقادة والمغنين والحيوانات، إلا أن الموضوع الديني كان الأكثر شيوعاً في الأعمال النحتية.

اتبع الفنان في ماري التقاليد الدينية فجعل الرجال حليقي الرؤوس وذوي لحية معتدلة ذات شعر أجعد، كما جعل الرداء منحسراً عن الجذع، واليدين مضمومتين إلى الصدر توحيان بالخشوع والاحترام والتعبد

موقع "eSyria" التقى بتاريخ 25/1/2012 الباحث الآثاري "ياسر شوحان" للتعرف على فن النحت والتماثيل الموجودة في موقع "ماري" الأثري والذي قال: «امتاز فن النحت في "ماري" بين نوعين من التماثيل أولهما التماثيل التجارية لعامة الناس والتي أعدت للبيع، وثانيهما التماثيل للملوك وكبار رجال الدولة وقد أظهر فيها النحاتون عبقريتهم الفنية ومقدرتهم النحتية لتعبر عن حال كل شخصية بالقسوة أو بالنعومة».

الباحث الآثاري ياسر شوحان

وأضاف "شوحان" بالقول: «تعتبر تماثيل "ماري" وثيقة جمالية وعملاً فنياً، ولأجل ذلك أدرك الفنان أهمية الفن في المجتمع، فاختار في أعماله المادة المناسبة كالحجر بأنواعه والفخار والصدف والبرونز، ولم يهمل الفنان في "ماري" إبداع أعمال فنية تمثل (السباع، النمور، الثيران)، وتماثيل تروي قصة أصحاب المهن».

وبين "شوحان" بالقول: «اهتم الفنان في "ماري" بالتعبير عن الانفعالات النفسية والخصائص الذاتية فتمثال "إيبي أيل" عن صفات الذكاء، والدهاء ونجد في الزوجين المتعانقين أرق المشاعر الإنسانية، وأهمية منحوتات "ماري" جعلت الباحثين يستنتجون وجود مدرسة فنون يتلقى فيها المبتدئون دروس وتقنيات المتقدمين في النحت، لتلبية المتطلبات الرسمية والاجتماعية والثقافية في عصر اعتبر فيه تقديم تماثيل "عابدين" لمعابد الآلهة من وسائل التقرب والابتهال، وقد شبه بعض الباحثين تقديم هذه التماثيل قديماً بمثابة تقديم الشموع إلى أضرحة القديسين والصالحين في عصرنا، وتحتفظ بهذه التماثيل متاحف "دمشق" و"حلب" "واللوفر" و"المتحف البريطاني" و"متحف اسطنبول"».

اسم صاحب التمثال مكتوب على كتفه الأيمن.

وعمّا ميز تماثيل "ماري" قال الآثاري "رامز علوني": «اتبع الفنان في ماري التقاليد الدينية فجعل الرجال حليقي الرؤوس وذوي لحية معتدلة ذات شعر أجعد، كما جعل الرداء منحسراً عن الجذع، واليدين مضمومتين إلى الصدر توحيان بالخشوع والاحترام والتعبد».

وتابع "علوني" بالقول: «يعتبر تمثال الأسدين اللذين كانا يزينان مدخل "معبد دجن" من روائع الفن العالمي أبدعهما الفنان من البرونز وتقيّد في إبداعهما بالأسلوب الواقعي، وتعتبر الأختام الأسطوانية من روائع فن النقش، فأحسن الفنان اختيار مادته الأولية من حجر الهيماتيت والعقيق واللازورد، إضافة إلى أنواع أخرى من الأحجار الكريمة فنقشت عليها مواضيع ذات مضامين ميثولوجية وفنية ومن هذه الأختام "ختم مكنيشوم" ناظر القصر الملكي يمثل مشهد "زمرليم" المنتصر يركل بقدمه أعداءه بمساعدة "عشتار"».

نحت للحيوانات في موقع ماري

وأضاف "عمار كمور" المختص بعلم الآثار بالقول: «عثر في معبد "عشتار" على تمثال الملك "لمجي ماري" وهو مصنوع من الحجر الحواري الأبيض الذي ساعد في إبراز أدق تفاصيله يرتدي رداء "الكوناكس" الذي يغطي كل جسمه ماعدا الكتف الأيمن والذراع الأيمن، ويحمل التمثال على ظهره كتابة نذرية تقول "لمجي ماري الكاهن الأكبر للإله انليل"، وقد عثر أيضاً في معبد "عشتار" على تمثال من حجر الألباستر يعود إلى المغنية "أورنينا" وقد عني الفنان بصنع التمثال في وضعية الجلوس فوق وسادة مستديرة مزركشة، فجاء تشابك الساقين حراً وطبيعياً وعفوياً وكأنه صورة منقولة عن الحياة».

وأشار "كمور" إلى أجمل تماثيل "ماري" والذي نحت في العصر الذهبي "لزمرليم" قائلاً: «يعتبر تمثال "ربة الينبوع" قمة الفن الواقعي الذي امتازت به "ماري" في حضارات الشرق القديم وهو مصنوع من الحجر الأبيض بالحجم الطبيعي، يظهر فيه الشكل الثانوي والشعر المتدلي على الكتفين ويحلي جيدها ستة عقود من الحلي ذات الشكل الكروي، كما يميز معصمها ستة أساور، ترتدي ثوباً متموجاً كتموج الماء ويشاهد عليه رسم بعض السمكات، تحمل بكلتا يديها إناء يتدفق منه الماء، وتشير الدلائل الأثرية إلى وجود قناة مائية صغيرة أسفل التمثال ترتبط بإحدى القنوات المائية، حيث كانت المياه تتدفق من الآنية التي تحملها ربة الينبوع في الاحتفالات».

يشار إلى أن موقع ماري يبعد عن "دير الزور" 90 كم بالقرب من مدينة "البوكمال" وبدأت أعمال التنقيب بالموقع في عام 1933 على يد العالم الفرنسي "أندريه بارو" وحتى يومنا هذا.

  • الصورة الرئيسية تمثال الزوجين المتعانقين وأحد الكهنة.