الطين المادة الأساسية الأكثر شيوعاً واستخداماً في حضارة وادي الفرات، حيث عمل أهل المنطقة على استغلال تلك المادة أفضل استغلال ما جعلها تدخل في جميع مناحي الحياة الفنية والاقتصادية والاجتماعية، فعدا الفخار والخزف والأختام الاسطوانية هناك استخدامات أخرى أقل انتشاراً إلا أنها لا تقل أهمية في دلالتها على عمق تلك الحضارة وأهميتها، ولعل أهم الأمثلة على تلك الاستخدامات ما سمي اللوحات الطينية في حضارة "تل العشارة" والقوالب الطينية في حضارة "تل الحريري".

للتعرف أكثر على تلك الاستخدامات التقينا أولاً الآثاري "يعرب العبد الله" الذي أفادنا بالقول: «من الاستخدامات المهمة للطين ما عرف بـ"اللوحات الطينية" في حضارة "تل العشارة" وهي عبارة عن مجموعة من اللوحات الطينية الصغيرة تنقش عليها أشكال بشرية، ومن أشهر تلك اللوحات اللوحة التي اكتُشفت في موسم التنقيب الثالث في الموقع وهذه اللوحة مصنوعة من الطين، وملونة بطين مائل إلى الاحمرار في الوسط، وبلون برتقالي على السطح، وعليها آثار قار في دلالة على عملية ترميم سابقة.

إن عظمة الفن في الحضارات القديمة لا تتجلى فقط في التعبير عن الحالة الثقافية المعيشة في تلك الحضارات بل في قدرة ذاك الفن على استغلال مفردات البيئة على الوجه الأمثل، والتعبير عن تفاصيل قد لا يخطر في أذهاننا أنه يمكن استخدامها بهذه الجمالية، كما تجلى ذلك في القوالب الطينية في حضارة "تل الحريري"

وهناك لوحة أخرى يعود تاريخها إلى منتصف الألف الثاني ق.م تم اكتشافها في موسم التنقيب الثالث أيضا ويظهر فيها فقط النصف العلوي من جسم امرأة، ويبدو الجبين في اللوحة عريضاً والوجنتان صغيرتين، والشعر أسود منسدلا، أما العينان فالعين اليمنى لها بؤبؤ محزوز بشكل دائري، بينما اليسرى فلها نتوء فقط، والذراعان عليهما خطوط ربما تكون إشارة إلى الأساور.

قالب حلوى من ماري 1800 ق.م.

وهي موجودة حالياً في متحف "دير الزور" بالرقم المتحفي DeZ 1648، ومصنوعة من طين أحمر وبرتقالي، بطريقة الصب بواسطة قالب.

كما أننا نجد من الأعمال الطينية الشهيرة صفيحة مثقوبة لم يبق منها سوى الجزء السفلي ويعود تاريخها إلى منتصف الألف الثاني ق.م وهي مستطيلة الشكل، ويبدو أنها كانت تحمل بواسطة التعليق ويدل على ذلك الثقبان الأفقيان الموجودان فيها، ويوجد على الجزء المتبقي نحت بارز يصور شخصين متقابلين، في الجهة اليسرى من اللوحة يظهر ثوب "الكوناكس"، أما في الجهة اليمنى فتظهر عضلات قدمي شخص بشكل واضح، وقد تم اكتشاف هذه الصفيحة خلال موسم التنقيب الحادي عشر في التل نفسه».

الباحث الآثاري يعرب العيد الله

أما فيما يتعلق بحضارة "تل الحريري" فقد عرفت كما أسلفنا القوالب الطينية وعن ذلك حدثنا الأستاذ "ماهر دهمش" أستاذ التاريخ في جامعة "الفرات" بالقول: «الاستخدامات الشهيرة للطين في حضارة "تل الحريري" نجدها في الكثير والكثير من شؤون الحياة ولعل أكثرها طرافةً وندرة تميز هذه الحضارة هي "القوالب الطينية"، والتي تم العثور عليها في القصر الملكي الشهير في "ماري" وهي عبارة عن قوالب كانت تستخدم لتشكيل المواد الغذائية مثل الجبن والحلوى واللبن وكان بعضها مستطيل والآخر دائري، وقد تميزت هذه القوالب بالعناية الفائقة بالنقش عليها بطرق فنية لافتة فنجد على بعض تلك القوالب رسوماً بشرية كالقالب الذي يمثل امرأة عارية ورقبتها مزينة بالأطواق أطلق عليها اسم الآلهة العارية حيث يعتقد أنها كانت تمثل إلهة الخصب في "تل الحريري" كما توجد نقوش حيوانية ونباتية منفذة بأسلوب واقعي وكأن كل قالب من تلك القوالب يمثل قصة ما، فبعض القوالب كانت تمثل طيور محلقة، أو صوراً لمشاهد صيد الأيائل».

وحول الرأي الفني فيما يتعلق باستخدام الطين في تلك الحضارات التقينا الفنان التشكيلي "خليل عبد اللطيف" الذي أفادنا بالقول: «إن عظمة الفن في الحضارات القديمة لا تتجلى فقط في التعبير عن الحالة الثقافية المعيشة في تلك الحضارات بل في قدرة ذاك الفن على استغلال مفردات البيئة على الوجه الأمثل، والتعبير عن تفاصيل قد لا يخطر في أذهاننا أنه يمكن استخدامها بهذه الجمالية، كما تجلى ذلك في القوالب الطينية في حضارة "تل الحريري"».