«شكّل الطين المكون الرئيسي في العمارة والبناء في منطقة "الفرات" الأوسط لدرجة دفعت الباحثين الأثريين إلى وصف حضارة المنطقة بأنها حضارة طينية، وتدل الاكتشافات الأثرية على أن معظم المواد المستخدمة في الأبنية في حضارة "الفرات" الأوسط كانت معتمدة على مادة "الطين" ولعل اعتماد سكان الريف والعاملين في الأراضي الزراعية على مادة الطين أو "اللبن" يعد امتداداً لحضارة تعود إلى آلاف السنين».

هذا ما قاله رئيس شعبة المباني في دائرة الآثار بـ"دير الزور" "يعرب العبد الله" لموقع eSyria بتاريخ 11 تشرين الأول 2010 وأضاف قائلاً: «إن طبيعة المواد الأولية المتوافرة في البيئة الجغرافية تفرض نمطاً خاصاً على أسلوب العمارة والبناء فيها حيث يشكل السكن انعكاساً لمعطيات الطبيعة والبيئة وبما أن وادي الفرات سهل رسوبي غلب الطين على العناصر المكونة له كان استخدام الطين الأكثر شيوعاً في تصميم هياكل المباني في المدنيات الغابرة».

إن طبيعة المواد الأولية المتوافرة في البيئة الجغرافية تفرض نمطاً خاصاً على أسلوب العمارة والبناء فيها حيث يشكل السكن انعكاساً لمعطيات الطبيعة والبيئة وبما أن وادي الفرات سهل رسوبي غلب الطين على العناصر المكونة له كان استخدام الطين الأكثر شيوعاً في تصميم هياكل المباني في المدنيات الغابرة

وأشار "العبد الله" قائلاً: «بينت الدراسات الأثرية أن الإنسان القديم الذي استوطن في منطقة "الفرات" الأوسط بدأ بتشكيل كتل من الطين مخلوطة بقدر من القش تترك في الشمس لتجف ثم استخدمها في بناء أقدم قرية سكانية تم اكتشافها حتى الآن في المنطقة وهي "تل بقرص الأثري" جنوبي شرق مدينة "دير الزور" بـ/40/ كم يعود بناؤها للألف السابعة قبل الميلاد».

يعرب العبدالله

وأوضح "العبد الله" حديثه بالقول: «بناء القرية تم وفق مخطط مسبق وبتنظيم مدهش فكانت البيوت متلاصقة وتتبع نظاماً موحداً حيث طليت الجدران والأرضيات بالطين الأملس وشكلت العرصات والأزقة طرق المواصلات فيها، ثم تطور فن العمارة والبناء عبر مراحل زمنية بعيدة، فظهرت المدن الأولى في "الفرات" الأوسط التي تطلبت تشييد أسوار دفاعية عالية تم بناؤها على أساسات من الحجر الكلسي يقوم فوقها اللبن واتخذت أشكالاً وسماكات مختلفة فبعضها على شكل دائري، وأخرى مستطيلة حسب ما تقتضيه طبيعة المنطقة الجغرافية وتتألف من سورين تفصل بينهما مساحة فاصلة تشغلها بساتين أو مساكن للطبقة الفقيرة وتخترق الأسوار بوابات متقابلة تعلوها أبراج حراسة مطلية بالطين الأملس».

وتابع حديثه قائلاً: «إن تسارع عمليات التمدن أدى إلى نشوء السلطة الزمنية وانفصالها عن السلطة الدينية فحلت السلطة المدنية محل السلطة الدينية وبدأت الأبنية المرتبطة بالحكم بالظهور وفي هذه الفترة تعدى المأوى وظيفته المرتبطة بتوفير الأمن والاستقرار إلى وظيفة حضارية من خلال التنوع في أشكاله والتفنن في طراز البناء، فمن الطين المجفف على الشمس تم بناء القصور الفخمة وأهمها قصر "زمري ليم" في مدينة "ماري" الذي تبلغ مساحته هكتارين ونصف الهكتار ويضم /306/ غرف، ويعد بناء القصر بهذه الفخامة دليلاً على تطور في علم الهندسة والرياضيات حيث تم العثور على مجسمات طينية للبناء المراد تشييده وبرع المهندسون في تصميم سقوف القصر على شكل سقف منحدر مزدوج شكلت صفوف الأعمدة الخشبية المتقاربة دعائم معلقة له تسند إلى عوارض خشبية لتخفيف التوتر والضغط عن الجدران المبنية من الطين».

أحد أسوار ماري

وأضاف "العبد الله" بالقول: «تراكم الخبرات عبر العصور أدى إلى تمكن الإنسان من إدراك الطبيعة الكيمائية للطين وكيفية استخدامه والتعامل معه وحدود استعماله وظهر ذلك في صنع قساطل فخارية استخدمت كقنوات جر مياه عذبة إلى المنازل والمنشآت، وقنوات أخرى للصرف الصحي وبإضافة بعض الحجر المسحوق إلى الطينة الغضارية تم تصنيع القرميد واستخدامه في بناء الحمامات وأهمها حمامات "دورا أوربوس" المبنية من القرميد واستخدم الاسمنت الروماني كملاط لاصق بين القطع وهو عبارة عن خليط من الجص الأبيض والأسود ومسحوق الجبس والفحم وبقايا الروث الحيواني ليكتسب بذلك الصلابة التي تقارب صلابة البيتون، ولا يزال استخدام الطين شائعاً في "دير الزور" وخاصة في الأرياف ومناطق البادية كون هذا النوع يلائم طبيعة المناخ الجاف والحار صيفاً والبارد شتاءً كما أنه قليل التكلفة، ومن خلال تجربة الأقدمين أثبت إمكانية في تصميم أبنية شاهقة وضخمة صمدت أمام عوامل الزمن عبر آلاف السنين وشكلت معلماً حضارياً بارزاً».

الموقع التقى السيد "رامز علوني" مختص بآثار منطقة "الفرات" والذي قال: «كان للطين وظائف ثقافية أخرى إضافة إلى البناء والعمران كتدوين الأحداث اليومية على الرقم الطينية المكدسة في المكتبات وأهمها الأرشيف الملكي التابع لقصر "زمري ليم" المكتوب من الطين كما أثبتت الدراسات بأنه صديق للبيئة ويسهم في توفير الطاقة، كما يتميز الطين دائماً بأنه مادة سهلة الاستعمال والمزج والتعامل، إضافة إلى ميزاته التي يوفرها للبناء عبر امتداد الزمن من حفظ للحرارة في الشتاء والبرودة في الصيف وسهولة تشكيله في البناء والتكيف بأشكاله».

فرادة في فن العمارة الطينية