إن كان العالم بأسره يدين "لمملكة ماري" بالكثير من الحقائق التاريخية التي لم تكشف النقاب عن وجهها إلا باستعادة "ماري" من تحت الأنقاض، فإن "ماري" نفسها لا بد وأنها تدين للطين المشوي وللكتابة المسمارية بجعل تاريخها العريق يتحول إلى حقيقة جلية وواضحة، وذلك من خلال العدد الكبير من السجلات التي وجدت محفوظة فيها والتي تتمثل في مجموعتين الأولى اقتصادية وإدارية والثانية عبارة عن نصوص الرسائل المتبادلة بين ملوك "ماري" وأتباعهم ومن يتحالف معهم، وقد لقي الشق الثاني من تلك السجلات -أي الرسائل والسجلات السياسية- اهتماماً بالغاً من الباحثين لأهميتها في إلقاء الضوءعلى التاريخ السياسي لهذه المملكة.

من أجل التعرف أكثر على تلك السجلات عموماً والرسائل بصورة خاصة وما قدمته من حقائق التقينا في متحف "دير الزور" الآثاري "يعرب العبد الله" الذي تحدث لـ eSyria بالقول: : «سجلات "ماري" هي مجموعة كبيرة من النصوص المكتشفة في القصر الملكي ويبلغ عددها حوالي 25000 رقيم موضوعة في خزائن جدارية، وتعتبر المصدر الأساسي في التعرف على تاريخ المملكة وعلاقتها بالدول المجاورة، وتتضمن الخطابات الصادرة عن قصر "ماري" أو الواردة إليه من المدن الواقعة تحت سلطة "ماري" أو الدول المجاورة».

كان ذلك بداية المشروع ، ولا يزال بعيداً عن الإنجاز وسنرتكب خطاً كبيراً إن لم نذهب حتى النهاية في الكشف عن هذا المنجم، واستغلاله وبذلك سوف يتجدد تاريخ وجغرافية الشرق الأدنى بكامله

أما فيما يتعلق بوصف هذه السجلات وطريقة حفظها فقد أضاف "العبد الله" : «الخط الذي كتبت به السجلات هو الخط المسماري أما لغتها فهي اللغة الأكادية التي لم تختلف في مقاطعها ومفرداتها عن اللغة الأكادية في أسرة بابل الأولى، وكان الرقيم يوضع في محفظة طينية وينقش على المحفظة نص الرقيم ذاته، ثم تختم المحفظة بخاتم مرسلها وبالإمكان في هذه الحال معرفة محتوى الرقيم وشخصية المرسل دون كسر المحفظة إلا في حال الشك يتم اللجوء إلى قراءة النص الأصلي، وعموماً كانت الوثائق تحفظ في مستودعات لها أقفال وكل قفل مربوط بخيط ومعقود بكتلة من الطين مختومة بختم اسطواني وكلما فتح الباب نزعت الكتلة الطينية وفك الخيط وعند الإغلاق لا بد من كتلة طينية وختم جديدين، أما لغة التخاطب فيها فإن لها مدلولاتها السياسية التي تشير إلى مكانة كل من طرفي التخاطب فالملوك مثلاً يخاطبون "زيمري ليم" ملك "ماري" بدون ألقاب أو بلقب "أخوك " أما العاملون تحت سلطة الملك فيخاطبونه "بسيدي" ويطلقون على أنفسهم تعبير "عبيدك"، ».

الأستاذ يعرب العبد الله

وحول الفترة الزمنية التي شملتها تلك الرسائل والإضاءات التي قدمتها فيما يتعلق بتاريخ المملكة السياسي فقد تحدث عنها الدكتور"محمد عبد الطيف محمد علي" في كتابه الخاص بسجلات "ماري" : «تشمل سجلات "ماري" عالماً يمتد من "عيلام" والخليج العربي شرقاً إلى الساحل السوري وشرقي حوض البحر المتوسط غرباً، وفقاً لما تبين من الأسماء العديدة للمدن التي وردت في نصوص رسائل "ماري"، وتعنى سجلات "ماري" بذكر وصول ورحيل الرسل الأجانب سواء من أوفد منهم إلى مدينة "ماري" أو من توقف بهذه المدينة في الطريق إلى جهة أخرى، وتبين هذه السجلات وخاصة الرسائل أنه كان لمملكة "ماري" مندوبون في قصور الملوك الأجانب الذين تحالفوا معهم وخاصة "بابل" والعكس صحيح، وأن الحلفاء كانوا يعرفون بعضهم البعض بمخططاتهم عن طريق الرسائل الشخصية المتبادلة والتي حملها رسلهم، وأنه من الطرق المتبعة للحصول على العلومات عن مخططات العدو اعتراض سبيل رسول هذا العدو والاستيلاء والإطلاع على اللوح أو الألواح الكتابية التي حملها، الأمر الذي يفسر تضمن سجلات "ماري" رسائل غير موجهة إلى قصر "ماري" ولم تصدر عن هذا القصر.

وعن المعلومات التي تقدمها تلك السجلات حول الملوك الذين حكموا "ماري" أضاف : «نستدل على أسماء ثلاثة من ملوك "ماري"-غير ياسماخ أدد- وترتيبهم من النصين التاليين إذ يذكر أحدهما وهو من نقش من "ماري": "ياخدون ليم" ابن "ياجيد ليم" ملك "ماري" وأرض "خانا" ،ويذكر الآخر وهو من كسرة نقش من "ترقا": "ياخ" والد ملك "ماري" "زيمري ليم".

مشهد من آثار ماري

بما يفيد بأن هؤلاء الملوك على الترتيب "ياجيد ليم" ثم ابنه "ياخدون ليم" ثم "زيمري ليم"، ولا نعرف عن "ياجيد ليم" الذي يتبين من النصين السابقين أنه اعتبر مؤسساً لمملكة "ماري" سوى ما أفاد به أحد نصوص "ماري" بأنه أجرم في حق "إيلا كابكابو" حاكم "ترقا" ولذلك ساعد الإله "إيلا كابكابو" فقهر أرض "ماري".

أما "ياخدون ليم" فيعرف في نص له أنه كان ملكاً على "ماري" و"توتول" واقليم "خانا" ومن انجازاته الهامة بناء معبد الإله "شمش" بمدينة "ماري".

انتهت حياة "ياخدون ليم" بالقتل وأعقبت عهده فترة قصيرة تقدر بنحو أربع سنوات شغلها حكم ابنه "سومويامام"، أما "ياسماخ أدد الآشولاري –بعد سيطرة الآشوريين على ماري- فيرد اسمه في عديد من خطابات "ماري" ومعظم هذه الخطابات موجهة إليه من أبيه "شمسي أدد الأول" من أخيه "إيشمي داجان".

وبعد طرد "ياسماخ أدد" ارتقى "زمري ليم" عرش "ماري" إذ لقي "زمري ليم" في منفاه بمملكة "يمحاض" حفاوة ملكها الذي زوجه من ابنته، ويقر "زيمري ليم" في خطاب إلى "ياريم ليم": "حقاً إن أبي "أي يارينم ليم" هو الذي جعلني أستعيد عرشي".

كما تتحدث تلك السجلات عن العناصر شبه البدوية التي أقامت في نطاق مملكة "زيمري ليم" أو في تخومها ومنها ما كان معادياً مثل "اليمينيين"،أما عن القوى السياسية خارج نطاق مملكة "ماري" فقد ارتبط بها "زيمري ليم" بصلات متفاوته فقد كان لمملكة "حلب" المكانة الأولى في الصلات الودية لهذا الملك».

كما تبين هذه السجلات أن لمملكة "ماري" مندوبون أي سفراء في كل دول المنطقة مثل "بابل" و"حلب" وأسماء هؤلاء المندوبين واردة في السجلات الملكية، وفيما يتعلق بقيمة هذه السجلات ودقتها فقد علق على إحداها العالم "ثورو دانجان" بالقول: إن هذه الرسالة من أدق الرسائل الدبلوماسية في الألف الثاني قبل الميلاد، ولو غيرنا فيه ا الأسماء فقط لأمكننا القول أنها رسالة مبعوثة من قبل إحدى سفاراتنا في الخارج في القرن العشرين.

ومن الجدير بالذكر وفق ما أتى به الأستاذ "مفيد عرنوق " في كتابه "صرح ومهد الحضارة السورية" أن أهمية هذه السجلات دفعت الأستاذ "أندريه بارو" إلى التعلق على ترجمتها بالقول: « كان ذلك بداية المشروع ، ولا يزال بعيداً عن الإنجاز وسنرتكب خطاً كبيراً إن لم نذهب حتى النهاية في الكشف عن هذا المنجم، واستغلاله وبذلك سوف يتجدد تاريخ وجغرافية الشرق الأدنى بكامله ».

المراجع :

مفيد عرنوق، صرح ومهد الحضارة السورية،منشورات دار علاء الدين. ص 43

د. محمد عبد اللطيف محمد علي، سجلات ماري وما تلقيه من أضواء على التاريخ السياسي لمملكة ماري، دار المعرفة الجامعية ، الإسكندرية ص 18 -21- 25.

مدينة ماري، يعرب العبد الله، مفيد عرنوق.