منذ عودته قبل عام مضى، إلى حيهِ "الحميدية" أقدم أحياء مدينة "دير الزور" بعد تحريره من الإرهاب وبدء التدخل الحكومي فيه، شرع "عناد السهو" أحد أبناء الحي العائدين إليه بتأهيل منزله وبقاليته التي يجلس أمامها اليوم ليستحضر أمام زبائنه وزوّاره ذاكرة الحي وأيامه الخوالي لتكنُسَ سني الألم بالأمل أن تعود مُشرقة.

أيام لا تُنسى

يستذكر الرجل السبعيني في حديثه لـ" eSyria" أيام الحي قُبيل أن تطاله يدُ الخراب قائلاً : "كانت أياماً بسيطة كبساطة أهله، تجتمع الجارات فترة قطاف البندورة يصنعنَ دبسها مؤونةً للشتاء، كان الأمر أشبه بطقس جماعي يتكرر كل صيف، والأمر كذلك مع عادة (فتل الشعيرية)، كل تحضيرات مؤونة الشتاء تجري هكذا من تيبيس البامياء إلى الملوخية إلى صنع المكدوس... إلخ، الأولاد والفتيات كان لهم مشاركتهم الخاصة وتقتصر على تخديم النسوة المُجتمعات بماءٍ أو بصنع الشاي والقهوة حيث يبدأ عمل النسوة صباحاً، ثم يتجدد عصراً مع برودة صيف الدير الحار.

هنا لا بأس من الثرثرة ليمضي الوقت، تبسّم السبعيني ضاحكاً، في "دير الزور" نّسميها (كراضة) وفحواها تزوج فلان وفلانة، لقد كان للعرس نكهته، يجتمع الجيران والأقارب، يتشاركون تنظيف ساحة العرس، أو إعداد طعامه، فيما للنسوة النصيب الأوفر من تجهيزات العرس سواء بإعداد العروس أو طهو الطعام، ومن لديه سيارة من الجيران سيحضر مُشاركاً بالمجان يطوف مع قافلة من تكاسي الأجرة بالعروسين شوارع المدينة وجسورها.

الكاتب مازن شاهين

أما العزاء يقول "أبو إبراهيم": كان يستمر أسبوعاً كاملاً، كانت تُنصب خيمة كبيرة في شارع الحارة لاستقبال المعزين... كانت أيامنا تمضي هادئة وجميلة.. اجتماعات الرجال تكثرُ أمام المنازل بعد رش أرضها بالماء وهنا يكون للشاي الديري الثقيل نكهته مع تبادل أطراف الحديث ماضيه وحاضره، لقد عُدتُ لمنزلي بعد ترميمه وفتحت بقاليتي، واثقٌ بأن تلك الأيام الجميلة ستعود ويعود كل شيء جميلاً كما كان".

أقدم الأحياء

حسب الباحث والصحفي "مازن شاهين" يعدُّ "الحميدية" من أقدم أحياء "دير الزور" ويقع في قلبها يقول لـ"مدوّنة وطن" : نشأ الحي في العام 1893 في عهد السلطان العثماني "عبد الحميد" ومنه أخذ الحي اسمه، وهو يتوسط المدينة بين شارع "التكايا" شمالاً و حي "العمال" جنوباً، فيما يحده شرقاً حي "المطار" القديم وشارع "الهجانة"، ومن الغرب "الحديقة المركزية".

الصحفي خالد جمعة

وأضاف : "من معالم الحي جامع "السليمي"، وهو أول جامع بُني فيه، قام ببنائه السيد "محمد نوري السليم" على نفقته الخاصة عام 1926، ويحوي الجامع إضافة لأماكن العبادة أربع غرف كانت تدرّس فيها علوم القرآن الكريم والحديث الشريف وبعض العلوم الأخرى، وفي عام 1944 قام "السليم" بجر المياه العذبة إلى ساحة الجامع، وبهذا العمل كان أول من أدخل الماء العذب إلى الحي، أيضاً هناك "المناخة"، وهي عبارة عن موقع تجاري تلتقي فيه قوافل البدو والريف، لتبادل المنتجات من أجبان وألبان وحطب وأصواف ... الخ، وسُمّي الموقع "بالمناخة" نسبة إلى طريقة جلوس الجمال التي كانت ترد الموقع وهي محملة بالبضائع، ويضم الحي أول ثانوية للبنات (البنات الأولى) ويعود تاريخ إحداثها إلى العام 1924، ولعبت هذه الثانوية دوراً كبيراً في تخريج أجيال أثرت كثيراً في الحياة الاجتماعية بالمحافظة، وقد تحولت المدرسة فيما بعد إلى ابتدائية ثم أصبحت تُعرف باسم إعدادية الشهيد "مصطفى الأمين"، وتأسست في هذا الحي أول جمعية نسائية في "دير الزور" باسم "جمعية المرأة العربية"، وقد قامت بتأسيسها المربية الفاضلة "لبيبة حسني" في عام 1959، وساهمت هذه الجمعية بتعليم النساء الأميات القراءة والكتابة والخياطة، ولا تزال هذه الجمعية تلعب دوراً كبيراً في شؤون المرأة حتى يومنا الحاضر، وكان يحتضن ورشةً صغيرةً يُطلق عليها "الفخرة" تُصنع فيها قوارير الفخار المعروفة باسم "الزير" أو "المزملة" الخاصة بالمياه، و"التنانير" لصنع الخبز، و"نولاً" قديماً لصناعة البسط إلا أنه اندثر".

أيام للذكرى

الصحفي والأديب "خالد جمعة" -من أهالي الحي- يقول : "أيام "الحميدية" لا تُنسى، هناك ترعرعت بين شوارعه وحاراته وحكاياه وفيه كتبت أولى قصائدي فكان ديواني الشعري "هكذا غنى الفرات" ثم "وتبقى الأغصان"، وفي روايتي التي ستصدر قريباً بعنوان "أوراق" فللحي وسنواته حيزٌ كبير، إنه "دير الزور" الصُغرى بحلوها ومرها، تجد في الحي بجهته الجنوبية الشرقية حارةً سُميت "فلسطين" حيث وزعت حينها الأراضي على أبناء "دير الزور" الذين شاركوا بحرب الإنقاذ في وجه الاحتلال الصهيوني لفلسطين في العام 1948، مُنحت إكراماً لهم ولتضحياتهم".

المشفى المصغر الذي يجري تأهيله

ولعل الملفت أن أغلب لاعبي نادي "الفتوة" النادي الأول بدير الزور والأكثر شعبية هم من أبناء حي "الحميدية" أمثال النجم والمدرب الوطني "أنور عبد القادر" ، والنجم "محمد الشريدة" ، و"حسان الموسى" ، و"عدنان الجاسم" المُكنى (أبو الدولة) وغيرهم، ومن شخصياته الثقافيّة: دكتور الأدب العربي "حسن حسني" والشاعران الشقيقان شاعر الطفولة الراحل "جمال علوش" الذي أثرى شعر الأطفال ونشرت قصائده كبريات الصحف والمجلات ولا تزال قصائده تُغنى في قنوات الأطفال التلفزيونية، و"ناظم علوش" الذي أصدر دواوين شعرية عدة ويُعد من كبار شعراء المحافظة".

ما بعد التحرير

مختار الحي "همام العبد الله" من جانبه أكد لـ" eSyria " بدء عودة الأهالي بعد تحرير المدينة، وحسب قوله يصل أعداد العائدين إلى الحي قرابة 700 عائلة، والأمل بعودة المزيد مع تنامي حركة التأهيل للبنى الخدمية فيه، نسبة الدمار التي أحدثها الإرهاب متوسطة إلى حدٍ ما، ومع بدء التدخل الحكومي بدءاً بإزالة الأنقاض وفتح الشوارع وتأهيل خطوط الكهرباء ومياه الشرب والصرف الصحي فإن الوضع يتحسن يوماً بعد آخر، كانت أعداد القاطنين في "الحميدية" قبل الأحداث حوالي 30 ألف نسمة.. جرى افتتاح محلات تجارية بدعمٍ من المنظمات الدولية، أغلب سكانه من الطبقة المتوسطة وفيه سكن أهالي حي "الدير العتيق" بعد إزالته في الخمسينيات، إضافة لأبناء قرى مُجاورة استقروا فيه ومن مناطق سورية أخرى فتجد "حارة السخاني" التي سُميت نسبة لقاطنيها وهم من مدينة "السخنة" المجاورة لمدينة تدمر".

تدخل حكومي

بعد تحرير المدينة من الإرهاب بدأت عجلة التدخل الحكومي دورانها في التأهيل بالتعاون مع المنظمات الدولية الموجودة بالمحافظة كما يُشير مدير التعاون الدولي بالمحافظة "إياد الدخيل" في حديثه لـ"eSyria " : "أعمال التدخل في الحي جرت على مراحل، الأولى كانت إغاثية بالمواد الغذائية والألبسة واحتياجات المواطنين الأساسيّة الإسعافيّة إن صح التعبير، ثم جرى الانتقال للمرحلة الثانية مع تزايد أعداد العائدين وذلك بإعادة الخدمات الأساسية من قبيل تأهيل شبكات الكهرباء والمياه والصرف الصحي، سبقها طبعاً فتح الشوارع وإزالة أنقاض الدمار الحاصل.

وفي المرحلة الثالثة الجارية حالياً تم تأهيل الطابق الأول انتقالاً للثاني في مركز الرعاية بالحي بتحويله لمشفى مُصغر مزود بكافة المستلزمات وسيكون مشفى من الطراز الرفيع، إضافة لتأهيل حديقة "أبو تمام" والمخبز الآلي الذي زُود بخط إنتاج جديد، ناهيك عن القطاع التربوي حيث جرى تأهيل ثلاث مدارس فيه وهي (آمنة الأزهرية، ساطع الحصري، مصطفى الأمين).

وقال "الدخيل" : "جرى تأهيل 125 محلاً تجارياً وتوزيع عِدد لـ50 شخصاً من أصحاب المهن، وتم تركيب 84 جهازاً لإنارة الشوارع بالطاقة الشمسية و72 عموداً كهربائياً، كما قمنا بتجهيز 150 شقة سكنية بالأبواب والنوافذ وما إلى ذلك، ونُجري الآن مسحاً لتأهيل 200 شقة أخرى، ومن المشاريع قيد التعاقد تأهيل مركز الانطلاق القديم، ومحور الطريق الرئيسي بدءاً بجامع "المفتي" مروراً بكلية العلوم وحتى مشفى النور، وتشمل الأعمال تزفيت وإنارة وتأهيل جزر وسطيّة.