إن كان لكل مدينة أصل يحن إليه كبار السن، ويتمسك من عاش فيه بحبه له وبما يحمله في ذاكرته من تفاصيل فإن أصل "دير الزور"- لاشك- هو ما يسمى اليوم "الدير العتيق" أو "المدينة القديمة" فهي نواة الأحياء الحديثة التي توسعت "الدير" من خلالها حتى وصلت إلى مساحتها الحالية.

للتعرف على المدينة القديمة في "الدير" من حيث الموقع التقى eSyria أولاً السيد "مازن شاهين" عضو لجنة حفظ التراث في المدينة، والذي أفادنا بالقول: «قامت المدينة القديمة في "الدير"على تل اصطناعي يتألف من تراكم عدة حضارات على الضفة الشرقية لنهر الفرات، ويشكل "الدير العتيق" مثلثاً قائم الزاوية يطل على النهر من الجهة الشمالية ويمتد من الجسر "العتيق" حتى قصر المحافظة سابقاً، أما القاعدة فتمتد من مقهى "عصمان بيك" وحتى شارع النهر ويشكل شارع النهر مع امتداده نحو الغرب الضلع القائم له».

يشكل "الدير العتيق" نسيجا معماريا موحدا ينتمي إلى نظام العمارة العربية، حيث يتميز بالبيوت المتقاربة ووجود فسحة سماوية ودرج داخلي وما يسمى الإيوان، وهو بشكل كامل مبني من الحجارة المحلية

وقبل الحديث عن أحياء "الدير العتيق" كان لا بد من الحديث عن السور الذي يحيط به والنظام المعماري داخله، الأستاذ "عمر صليبي" وصف السور بالقول: «إن أبناء البلدة أشادوا لها سوراً له بابان كانا يفتحان صباحاً ويغلقان مساءً، أحدهما باب "الهوى" في الجهة الجنوبية الغربية لبلدة "الدير العتيق" والآخر في الجهة الشرقية، وأما الحراسة الليلية فيها فكانت بالتناوب بين أبناء البلد».

اطلالة الدير العتيق على الفرات

وفيما يتعلق بالطراز المعماري فيه التقينا بالمهندس المعمار "عبد السلام آغي" والذي أفادنا بالقول:

«يشكل "الدير العتيق" نسيجا معماريا موحدا ينتمي إلى نظام العمارة العربية، حيث يتميز بالبيوت المتقاربة ووجود فسحة سماوية ودرج داخلي وما يسمى الإيوان، وهو بشكل كامل مبني من الحجارة المحلية».

الباحث غسان رمضان

وحول الأحياء التي تألف منها "الدير العتيق" والأحياء التي انطلقت منه فيما بعد التقينا بالباحث "غسان رمضان" الذي حدثنا قائلاً:

«كان "الدير العتيق" يتألف من كتلة عمرانية تمتد من الجامع "العمري" الذي لم تُعرف حتى اليوم سنة بنائه أو الشخص الذي قام على بنائه وحتى فندق "زياد"، وكان مقسماً إلى عدد من الشوارع الضيقة مما كان يسمى "دربات" وكل "دربة" تضم تكتلا عشائريا مؤلفا من 20- 30 بيتا، وتخترق "الدير العتيق" من الشمال إلى الجنوب ومن أشهرها "دربة الجويشنة" في القسم الغربي من التل و"دربة السادة" في الوسط و"دربة المعامرة" تحيط بجامع الوسط، و"دربة الخرشان" و"البوشلهوم"، ولعل من أبرز معالمه الأثرية "الجامع الكبير" و"جامع الملا علي" مقابل "دربة المعامرة" الشرقية».

الفنان التشكيلي عبد الجبار ناصيف

وحول أسباب عدم اتساع المدينة إلا بعد هدم أسوارها تابع بالقول: «كانت "دير الزور" القديمة محاطة بسور مبني من الحجارة والطين، وهذا السور أو بالأدق هذه الطريقة في التحصين تشبه الطريقة التي حصن بها الفرس مدنهم، وكان هذا السور يحمي المدينة من غزوات البدو المستمرة، والتي لم تنقطع إلا بعد أن أصبحت "الدير" "متصرفية" مرتبطة بالباب العالي في "اسطنبول" وتخصيص حامية عسكرية في المدينة، ما أدى هنا إلى الاستغناء عن السور وبالتالي إلى توسع المدينة ونشوء الأحياء الأخرى التي كانت تسمى في تلك الفترة الأحياء الحديثة، وتعتبر اليوم أحياءً شعبية.

وقد أخذت المدينة تتوسع وذلك بعد تأمينها، فكانت أول الأحياء المبنية خارج حدود "الدير العتيق" هي "علي بك" والذي يسمى اليوم حي "العرضي" حيث بنيت مساكنه شرقي مقر الحاكم العثماني كما تم شق الشارع العام جنوب المدينة، واستمرت المدينة بالتوسع نحو الشرق والغرب عام 1889 م وتم إنشاء حي "أبوعابد" والذي سمي بهذا الاسم نسبة لأحد الأئمة المدفونين فيه، فقد تم بناء مساكنه جنوب "الدير العتيق" يحده من الشرق شارع "حسن الطه" ومن الجنوب مقابر المدينة ومن الغرب مقبرة "البعاجين"، كما بني حي "الرشدية" ويمتد من غربي "الدير العتيق" إلى نهاية المشفى الوطني اليوم، وحي "الشيخ ياسين" والذي يمتد من عقد "السيد طه" إلى نهاية المقبرة الواقعة شرقي تكية الشيخ "أحمد الراوي"، وفي عام 1893 م في زمن المتصرف "مصطفى رفقي باشا" أحدثت محلة "الحميدية" نسبة إلى السلطان "عبد الحميد" والتي تمتد من "طاحونة حج رزوق" إلى المطار القديم».

ومما لاشك فيه أن تلك الأحياء بمبانيها الطينية واتساعها وذكرياتها شغلت عقول وقلوب من عاشوا فيها خاصة من أهل الفن التشكيلي ومن شعراء وقاصين فكان "للدير العتيق" حيزاً لا يستهان به من أعمال هؤلاء وخاصة بعد الإجحاف الذي تعرض له بهدمه بشكل كامل عام 1967م وهذا ما عبر عن الفنان التشكيلي "عبد الجبار ناصيف" في كثير من لوحاته وتحدث عن ذلك بالقول:

«"للدير العتيق" قداسته لدي فقد كنت أقيم في منطقة "الحويقة" وبالتالي كان "الدير العتيق" قبالتي دائماً، ومازلت أذكر أبناءه الذين كنت ورفاقي نتبارى معهم "بالمقاليع" أو نتسابق سباحةً، وهو يمثل حالة تاريخية وقيمة لا تقدر بثمن وهذا ما جعل من هدمه كارثة بالنسبة لنا وجعله يترسخ أكثر وأكثر في أعمالي الفنية».