تميزت بيوتها وأزقتها بأقواس وأعمدة مصنوعة من الرخام والحجر الكلسي الأبيض، ارتبطت بحضارات سكنت "وادي الفرات"، وقام الإنسان الديري بتنفيذها قبل معرفته بالعلوم الهندسية، فتنوعت أشكالها ما بين العربية والفارسية.

للحديث عن أقواس أحياء وبيوت "دير الزور" ودلالاتها الاجتماعية قبل قرن من الزمن، التقت مدونة وطن "eSyria" وبتاريخ 6 آذار 2015، الفنان التشكيلي "رضا خطاط"، ويقول: «كان هناك دلالات اجتماعية مهمة لهذه الأقواس والعقد والأعمدة؛ منها كسر الملل في البيوت ومنحها جمالية وفناً، إضافة إلى أنها تدل على قيمة أصحاب هذه البيوت اجتماعياً بين الناس، وذلك يظهر واضحاً بكثرة الأعمدة والأقواس والتيجان المتواجدة في واجهة البيوت والغرف، وكان وجود الأقواس والعقد في بعض الأزقة دلالة على تقارب أصحاب البيوت بالنسب والزواج، ففي حال زواج الشاب من ابنة جيرانه المقابلين لدار أهله تقوم العائلتان ببناء غرفة تجمع البيتين وتطل على الشارع وتسقفه، ويتم وصلها مع دار عائلة الشاب بدرج وتسمى الغرفة "العلية"؛ التي تبنى بتحميل إنشائي على العقود المبنية من الحجر».

تتجلى الجمالية بهذه الأقواس في أشياء شتى فهي تشكل روابط أسرية وقبلية وعشائرية عند الارتباط ما بين الأسرتين وتكوين العقد أو بالأحرى العقود، إضافة إلى تحديد الحارات ( بداية ونهاية ) ويخلق نوعاً من الخصوصية النصف عامة للحياة الاجتماعية، و كسر الملل البصري وتناغم للخطوط المشكلة وبالتالي خلق نوع من الهارموني مابين المكان وقاطنيه

ويضيف: «لم يبخل الحجار الديري بفنه وحرفته لتزويق الأسطوانات والأقواس والتيجان والأعمدة، فقد نجد بعض الأعمدة ذات الأضلاع المحززة الدائرية، ونجد أعمدة مربعة مع حزوز طولية، وهناك أعمدة بنحت حلزوني وغيرها من الأشكال الفنية التي تدل على مهارة وحرفية معلم البناء، كما لم يكتفِ بذلك وإنما أبدع بتنفيذ التيجان، فتجد منها الدائرية والمربعة وبعضها بزخارف نباتية وأخرى بزخارف حيوانية، وكان لمعلم البناء دور مهم في صنع الأقواس وذلك قبل معرفته بالعلوم الهندسية، من خلال رسم القوس ومن ثم تقطيعه ونحت الأحجار المناسبة ومن بعدها تركيبه في المكان المخصص».

نموذج عن الأقواس

وعن الانعكاس الاجتماعي لهذه الحالة الجمالية يقول المهندس "نادر العلي" : « تتجلى الجمالية بهذه الأقواس في أشياء شتى فهي تشكل روابط أسرية وقبلية وعشائرية عند الارتباط ما بين الأسرتين وتكوين العقد أو بالأحرى العقود، إضافة إلى تحديد الحارات ( بداية ونهاية ) ويخلق نوعاً من الخصوصية النصف عامة للحياة الاجتماعية، و كسر الملل البصري وتناغم للخطوط المشكلة وبالتالي خلق نوع من الهارموني مابين المكان وقاطنيه» .

كما حدثنا المهندس المعماري "كاسر عثمان" ابن محافظة "دير الزور" والمقيم في "الدنمارك" بالقول: «كان الديريون يهتمون بمداخل منازلهم وتجميل الأزقة، وهناك نماذج من الأقواس والأعمدة والتيجان متواجدة في المنطقة منذ الألف الخامس قبل الميلاد، مثل حضارة "بقرص" وكانت مبنية من الطين والحجر، وأيضاً في "الصالحية" أو ما يسمى حاضرة "دورا أوربوس"، وتعد هذه الأشكال المعمارية ملخصاً لتاريخ الحضارة في كل منطقة ومرآة ثقافة سكانها، لذلك نجد هناك علاقة ارتباط بين الأقواس والأعمدة والتيجان والعقد المنفذة ببيوت وأحياء "دير الزور" وبين هذه الحضارات التي سكنت "وادي الفرات".

المهندس كاسر عثمان

وقد تنوعت تلك الأقواس في أحياء المدينة وبيوتها القديمة من حيث الشكل والتصميم، فهناك القوس الدائري وهو إسلامي وعمارة عربية، والقوس الفارسي وهو منتشر بكثرة ويستخدم بالسقوف على شكل عقود بالممرات، ومن المعروف أن المنطقة حتى حدود "الفرات" من الشرق تأثرت بالعمارة "الفارسية"، كما ساعد الحكم "العباسي" على انتشار هذا النمط المعماري، وما يدل على ذلك أن كافة المساجد والمزارات والقصور في "العراق" وشرق "الفرات" تستخدم هذا النمط، الذي يتميز بالرشاقة وينسجم مع القبب "الفارسية" كما في "بغداد" و"النجف" و"البصرة"، وفي "دير الزور" هناك جامع "العرفي" الذي استخدم النموذج الفارسي في البناء.

لا تخلو البيوت الديرية القديمة من هذه الأقواس والأعمدة والعقد، أمثال: بيت "هنيدي" في "الحويقة"، وبيت "فتيح" في شارع "النهر" في "العرضي"، وبيت "حج فاضل" في الشارع العام مقابل المصرف التجاري».

أما عن طريقة بناء وتنفيذ هذه الأقواس فيضيف: «استخدم الحجّار أو معلم البناء الرخام والكلس في نحت الحجر، وكل واحدة من الأحجار المنحوتة تستند إلى الأخرى، وفي الوسط يوجد القفل وهي الحجرة الأهم وتكون بمركز القوس، ومن حيث التركيب يتم نصب هيكل خشبي مع ألواح مقوسة، حيث لا يوجد "ملاط" (إسمنت) يربط الحجارة بعضها ببعض وإنما تعتمد على ارتكاز واحدة على الأخرى.

حيث كان معلم البناء الديري يقوم برسم القوس على الأرض، فيكون الرسم مطابقاً تماماً للقوس المراد تنفيذه، ثم يقوم بتقسيم القوس إلى عدد من الحجرات مبتدأ بالمفتاح وهي الحجرة الأولى والأخيرة على القوس، ومنتهياً بحجرة القفل وهي الحجرة الوسطية في قمة القوس، ثم يأخذ قياسات كل حجر ويطلب من الحجّار أن يقوم بنحت كل حجر بالقياسات المطلوبة، وعند الانتهاء من النحت يقوم معلم البناء بتركيب القوس على الرسم المخطوط على الأرض سابقاً للتأكد التام بأن الحجر المنحوت مطابقاً للمخطط المطلوب.

وبسبب ظهور البناء الإسمنتي بدأت تزول هذه المسحة الجمالية عن البيوت ليظهر بدلاً منها كتل إسمنتية تتسم بالمظهر القاسي الخالي من أي ذوق أو حس فني».