كلَّ صباح تجده أمام منزله مُمسكاً كتابه يقرأ، في الشتاء حيث الشمس تُرسل خيوطها الأولى لائذاً بدفئها، وفي الصيف تحت نخلته وظلالها، المُسن ابن السادسة والثمانين عاماً "خالد الصيّادي" لم يُغادر الكتاب منذ أن بدأ عشقه له في مرحلة الشباب.

ربما هي من الحالات القليلة التي لا يزال هناك من يمسك كتاباً رغم سنواته الكبيرة، لكن "خالد الصيادي" يعطي انطباعاً مختلفاً حيث لا يغادر الكتاب يديه، وهو حسب ما يذكر في حديثه لمدوّنة وطن" eSyria" : علاقتي مع الكتاب قديمة، بدأتها في مرحلة الشباب الأولى وما أزال، أقرأ مُختلف أنواع الكُتب، في الفلسفة كما التاريخ والسياسة، إضافةً إلى كتب الدين والمعتقدات مروراً بالروايات، تُشدني كثيراً القراءات لمسار الحضارات السورية القديمة، أجد فيها لذة وغالباً ما أقرأ في هذا الإطار للكاتب "فراس السواح" فكتابه "مغامرة العقل الأولى" شدّني بشكل عجيب كما كل كُتبه، لا أخفيك أنني كل فينة وأخرى أعيد قراءته".

وأضاف: "لا تقتصر قراءاتي على الكتاب، فأنا أتابع الصحف اليوميّة وأقتني على الأقل صحيفتين منذ الصباح الباكر يوم كانت ورقيّة، أقرأ صحيفتي تشرين والثورة، ومن الصحف العربية أقرأ صحيفة الحياة، ولكن مرة في الأسبوع على الأقل".

الفنان التشكيلي فاتح أبو جديع

" أبو علي" وهذا لقبه من مواليد مدينة معرة النعمان في العام 1936، حائز على شهادة الدراسة الإعدادية ويقطن مدينة دير الزور منذ العام 1961 ولا يزال في حيّه (القصور)، ولدى سؤال مدوّنة وطن له عن سر كونه قارئاً لكتب تحتاج في مفهومنا الآن لمستويات ثقافية عالية ترتبط لدينا بالشهادات العليا، تبسّم ضاحكاً وأجاب : الشهادة التي نلتها أعتقد تُعادل الشهادة الجامعية في زمنكم الراهن، مسألة أن تُطالع كتاباً ليست رهناً بالشهادة، لا أخفيك أيضاً أن الحراك السياسي أيامنا خلق عندي نهماً للقراءة كي أعرف ما يجري، ولتُشكل لديك مخزوناً من الدفوعات وسط النقاشات الفكرية والسياسيّة الجارية، كانت النقاشات وقتها جارية بين اليساريين والقوميين واليمين الديني".

شكّلت مدينته "معرة النعمان" وعيه السياسي فانتمى لليسار (الحزب الشيوعي السوري) وعن ذلك يقول : "أطروحات اليسار الاشتراكية جذبتني، انتميت له في قراءاته الاقتصادية، أما الدينيّة فبقيت على حالي غير موافق لها، غالباً ما كنا والقوميين ممثلين بحزب البعث العربي الاشتراكي في جانب واحد ضد اليمين الديني المُتعصب (الإخوان المسلمون)، أذكر ما جرى من مشاجرات معهم مع إعلان الوحدة بين سورية ومصر، كل ذلك الحراك الفكري كان الدافع لي في أن أقرأ، لدي مكتبة صغيرة أقرأ منها، وحتى في سنوات حصار دير الزور في سنواته الثلاث لم أترك القراءة، ولم أغادر المدينة وبقيت فيها حتى تحريرها من الإرهاب.

الفنان والخطاط خليل عبد اللطيف

صديقه وأحد جُلاسه الفنان التشكيلي "فاتح أبو جديع" يؤكد أن علاقة "أبو علي" والكتاب علاقة عضوية: ألتقيه عند الظهيرة عندما يكون أنهى قراءته الصباحيّة، أو عصراً في جلسات تغلب عليها همومنا، آمالنا، وضع أمتنا، استعراضات مشوقة لدى صديقي "أبو علي" وهو يتحدث عن فترة الخمسينيات والستينيات، ذاكرة مُتقدة رغم بلوغه سناً مُتقدمة، يقرأ لساعات طوال، مع تقدمه بالسن لا يزال مُحافظاً على عادته وإن قلّت ساعات القراءة لديه بمعدل ساعتين صباحاً ومثلها في المساء، الجميل فيه أنه يبادلني الرأي في أي عمل تشكيلي أنفذه وحتى في منحوتاتي يُعطيني رأيه فيها، وهو أيضاً عاشق للفن التشكيلي ويحتفظ بلوحات في منزله، رغم زحف التكنولوجيا السريع ومنافستها في تقديم الكتب والصحف وغيرها من محتويات الكلمة، غير أنه لم يُغادر الكتاب حتى الآن في زمنٍ استهلاكي بتفاصيله كافة".

الفنان والخطاط "خليل عبد اللطيف" وهو أحد جيرانه يقول: "بحكم عملي التدريسي فإنني أرى "أبو علي" كل صباح وهو يقرأ، مشهد يبعث فيّ الأمل، مراراً وأنا أود أن أرسم له لوحة، كان يرفض كي لا أعيقه عن قراءاته، في زمننا هذا بات المشهد غريباً، قلة هم من يقرؤون، لا علاقة للمطالعة بمستوى ثقافي معين، بل بالشغف لها وحبها، كل ذلك نجده فيه، في الحقيقة أمر مُلفت في زمنٍ يسكننا فيه القلق، القلق على كل شيء، مشهد " أبو علي" وهو يقرأ الكتاب، هو كمن يُضيء شمعة في ظلام".

في الوقت الذي يقرأ فيه "أبو علي" كتب "محمد عابد الجابري" ونقد العقل، كما يقرأ لساطع الحصري وكتابه عن ابن خلدون ومقدمته ومجمل كتاباته القومية، أو رأس المال لـ"كارل ماركس"، فإنه بالتوازي يشغل نفسه بأعمال المنزل بمهنية عالية ودقيقة، حيث يعمل على إصلاح الأدوات المنزلية من المقاعد والكراسي أو الكهربائيات لتعود صالحة للاستعمال وكأنها جديدة.

يُذكر أنّ "خالد الصيادي" شغل موقع الإشراف على أعمال مجلس مدينة دير الزور منذ انتقاله للمحافظة، وعُرف بتفانيه في عمله حتى تقاعده.