"عبد الناصر حداد" شاعر "فراتي" منفرد بذاته، اكتشفه الشعر صغيرا، فاستعمله لغايات شتى، منها التماهي مع القصيدة إلى حد عدم القدرة على توضيح من منهما حبر الآخر.

خلال اتكائه الطويل على عصا الشعر كان يحاول دائما أن يسبق الآخرين بخطوة، ولهذا كان حرصه شديدا لتطوير نصه، بُنية ومحتوى وإيقاعا ورؤية.

كل ذلك جعله يلمع في المشهد "الفراتي" أولا، وخارجه ثانيا، حاصدا في طريقه جوائز لا تتأتى إلا لنص ذي سلطة لغوية وجمالية.

عبد الناصر حداد

ومعه كان لنا هذا الحوار :

*بعد استلامك جائزتك الدولية الثانية، جائزة شعراء بلا حدود، التي تأتي بعد سنوات من جائزتك الأولى في مسابقة "سعاد الصباح"، هل ترى الجوائز تعبير حقيقي عن تجربة الشاعر؟

** المسابقات مؤشرات وليست مقاييس؛ هكذا أقول دائماً، وأن فوز أي شاعر بأية جائزة لا يعني أنه الأفضل، ولكن هذه الجائزة أو تلك تشير بأي حال من الأحوال إلى أن هناك شاعراً في هذه الساحة الكبيرة مازال على قيد الشعر.

  • الجيل الشعري مفهوم ملتبس، ما هو برأيك التعبير الأمثل للجيل الشعري، الزمن أم سلطة النص؟
  • ** أعتقد أن الجيل الشعري هو هذان الأمران معاً، ما معنى أن يكتب شاعران من نفس العمر، واحد من مدرسة الستينيات وآخر من التسعينيات؟

    قد يتسنى لشاعر أن ينشر وينتشر في العشرينيات من عمره، ويزامنه في النشر شاعر في الخمسين، ولكن هل هما من جيل شعري واحد ؟ هنا الالتباس.

    أعتقد أن الجيل الشعري هو الموجة الشعرية إذا صح التعبير، وهو دفقة شعرية زمانية، السلطة فيها للنص أولا وأخيرا.

  • أنت شاعر ينتمي إلى جيل التسعينات، وهو جيل لم يتسنّ له الاستفادة من مزايا الأجيال التي سبقته، إعلاميا ونقديا وإيديولوجيا، رغم هنا ثمة من يحمد الله على ذلك، على اعتبار أن الساحة قد أُفرغت من (الموهومين) والمتطفلين .. هل ترى ذلك؟
  • ** إعلامياً : أصبحت الكثير من الفنون تزاحم الشعراء حاليا، وهو ما لم يكن موجوداً من قبل أو مؤثراً على الأجيال السابقة كما هو عليه الحال اليوم.

    ونقدياً: مازال النقد لا يتناول إلا الأسماء المكرسة، وفي هذا الكثير من الظلم.

    وأما إيديولوجياً: فقد سقطت أغلب الأقنعة وسقط معها من كان محسوباً على فئة ما، وهو خاو من الداخل أساساً، وهؤلاء يستحقون أن نحمد الله على ذلك، فعندما هبت رياح التغيير الشعرية سقطت الأوراق الصفراء والأعواد اليابسة التي كانت تسندها الإيديولوجيا، وبقيت القامات الشامخة التي أفنت عمرها الشعري لتثبت أن الشعر من الآداب الإنسانية وليس من العلوم السياسية.

  • في الوقت الذي تنشغل فيه بنصك وتسعى لتطويره وتجديده، ثمة من يرى بأنك تحرث البحر لأن الشعر قد تراجع كقيمة ووظيفة أمام الفنون الأخرى، وخاصة البصرية .. ما رأيك؟
  • ** الشعر أيضاً له مد وجزر، والفنون من عائلة واحدة ..

    لقد استفادت الفنون الأخرى من الشعر بما في ذلك البصرية، ولكن مازال الشعر أباً لجميع الفنون، وأظن أن التراجع الحاصل قد طال مختلف الفنون والأجناس، مستثنياً من ذلك الفنون البصرية طبعاً، ولكن من يدري قد يكون اليوم بصر وغداً بصيرة..؟

  • في الصوفية يقال عن المتفرد كـ "البسطامي" و"الحلاج" (نسيج وحده) أنت أيضا تسعى لتكون (نسيج وحدك) في صوفيتك التي تحاول الابتعاد عن المنجز الشعري الصوفي؟
  • ** لا أحب أن يلتصق شعري بالصوفية، مع إجلالي العظيم لهذه الفلسفة المتفردة والخاصة، ولكن بحري يعزف إيقاعات متعددة، وتغذيه أنهار وجداول كثيرة، وقد يكون أحدها هذا النهر الصوفي العذب، فإذا كان لكل جسد روح، فأعتقد أن على النص أن يجسد هذه الروح.

  • لا نشتم في نصك رائحة لـ (حليب) القضايا الكبرى كـ "القدس" و"بغداد" وغيرها، التي يرضع من ضرعها معظم الشعراء، رغم أن الإنسان بانكساراته وغربته ومنافيه وأحلامه، منتشر في تفاصيل قصائدك؟
  • ** وهل الإنسان يعيش على كوكب آخر لا توجد على خرائطه مدن كـ "القدس" و"بغداد"؟

    وهل إنساني المنتشر في تفاصيل قصائدي، بانكساراته وغربته ومنافيه وأحلامه يعيش في غير هذه المدن؟

    ومع ذلك فإن المتبحر أكثر في شعري، وخصوصاً المتأخر منه، يستطيع أن يشم تلك الرائحة التي تتحدث عنها والتي تزكم نصي.

  • يرى البعض أن (الأنا) لديك عالية نوعاً ما، وتكاد تكون معلنة، فأنت القائل:«شممت رائحتي في قصائد بعض الكبار»، ماذا تقصد، أَوَلا يمكن أن تكون هذه من أمراض الشعر، خصوصا وأن البعض يرى أيضا أن هناك رائحة لـ(الكبار) في قصائدك؟
  • ** إذا كان ثمة رائحة مشتركة بيني وبين الكبار فهو أمر يروق لي، ولكن من تعني بالكبار؟

    هذه المقولة التي تستشهد بها مأخوذة من حوار سابق معي نُشر في إحدى الصحف المحلية، يتسم بالكثير من الخصوصية، وكان السؤال عن السرقات الشعرية التي طالتني عن طريق شبكة النت، وعن طريق أشخاص مقربين مني، وهؤلاء الكبار المعنيين في ذلك الحوار غير الذين تعنيهم أنت في هذا الحوار.

    ولكن دعني أقول هنا عن أناي كما قال ذلك الشاعر :

    لا أرى أكبر مني

    لا أرى مني أصغر

    إن يكن أكبر مني

    واحداً فالله أكبر

    الأنا في شعري مفهوم مختلف عما يشي به هذا السؤال، إنها كل تلك الأنوات الإنسانية المتعددة المختلفة، وهي تحتاج إلى بحث واستقراء ولا يمكن الحديث عنها هنا على أنها (أنا) واحدة، بل يجب أن تقرأ من عدة مستويات وأن ينظر إليها من مناظير مختلفة .

  • أين ترى مكانة الشعر "الديري"، و"الفراتي" عموما، في المشهد الشعري "السوري"؟
  • ** لقد قدم "الفرات" عموماً وقدمت "دير الزور" خصوصاً الكثير من الأسماء اللامعة في سماء الشعر السوري، ودون أن نذكر تلك الأسماء، فهي مازالت قامات عالية وهامات مرفوعة يشهد لها المشهد الشعري السوري نفسه، ولكن للأسف قُدّر على أغلب الشعراء الديريين أن يخرجوا من "الدير" ليكبروا، وقلة منهم مازالوا في المدينة يناضلون في سبيل إيصال إبداعاتهم وأصواتهم، وأعتقد أن "دير الزور" كمدينة نائية مازالت تعاني من مشكلة المركز والأطراف حتى في ظل وسائل الاتصال الحديثة والإعلام المتطور رقمياً وورقياً.

    *: هل ترى أن خصوصيتك ناتجة عن افتراقك عن معظم شعراء جيلك في هموم وشكل القصيدة، فقصيدتك الطويلة، الرؤيوية، والتي لا تكشف عن نفسها بسهولة، لا تتشابه أبدا مع قصائد جيلك البسيطة والقصيرة واليومية؟

    ** : معظم الشعراء اقترفوا القصيدة البسيطة، القصيرة واليومية، وأنا منهم، وكثير منهم اقترفوا القصائد الطويلة، وأنا أحدهم، لكن العبرة هنا ليست في الشكل بكل تأكيد، إنما في الطرح، هدفاً وموضوعاً وأدوات، وأنا لا أدعي بأن لدي تلك الخصوصية حقاً ولكنني أجزم بأنني أبحث عنها وأسعى إليها دائماً وهي أكثر همومي أهمية وأعظم هواجسي .

    *: القصيدة الحديثة تعيش مأزقها الخاص، فقصيدة التفعيلة تعاني من نمطية تحولها إلى كلاسيكية جديدة، فيما تعاني قصيدة النثر من الاستسهال وسطو المتطفلين، ما العمل لإعادة الشعر إلى منطقته في الإنسان والتاريخ؟

    ** : المأزق الحقيقي الذي عانت منه القصيدة الحديثة يكمن في تناولها من حيث الشكل فقط، وهنا الطامة الكبرى التي حلت وبالاً على القصيدة، على الحداثة أن تعزف أولاً على أوتار المضمون، لأن الروح سابقة على الجسد وموجودة قبل وجوده.

    ما تفسيرنا للظاهرة الشعرية اللاطبيعية، وكيف ننظر إلى ماهية الشعر، وبماذا نعلل تجلي الشعر في وردة أو جدارية أو في تحية صباحية أو في إيماءة عاشق، أوليس من الشاعرية أن تشرب فنجاناً من القهوة في مساء لطيف على ضفاف "الفرات"؟

    إذن تكمن العبرة في المضمون، وإنني إذ أنظر إلى مأزق القصيدة الحديثة أنظر إلى قلبها أولاً، هل استطاع هذا القلب أن يتفاعل مع الحياة المعقدة التي نعيشها؟

    لقد استطاعت القصيدة الجاهلية مثلاً أن تستوعب الحياة البسيطة التي كان يعيشها أجدادنا وتفاعلت مع كل جوانب تلك الحياة..

    أعتقد أن القصيدة الحديثة تعاني من أزمة قلبية.

    *: أنت على احتكاك مع التجارب الشعرية "السورية"، وهناك اعتراف عام بتميزها، "عربيا"، ولا أدل على ذلك سوى الجوائز التي يحصدها السوريون سنوياً في المسابقات العربية الكبرى، رغم هذا هناك تعتيم عليها أو إهمال لها، ما السبب؟

    ** : أجزم بأن التجارب الشعرية "السورية" أمدت وأغنت كثيراً التجارب الشعرية "العربية" فهي جزء لا يتجزأ منها، ومع الاعتراف العام بتميزها يجب ألا نبخس حق التجارب "العربية" المتميزة الأخرى، وعلى سبيل المثال لا الحصر ثمة تميز واضح في التجارب الشعرية في كل من "العراق" و"فلسطين" و"مصر" وغيرها..

    إن التجربة الشعرية "العربية" باعتقادي لا تعاني من أزمة جغرافية، أما عن التعتيم والإهمال فثمة أسباب عديدة يمكن تناولها، قد يكون أكثرها أهمية عوامل الاقتصاد والتسويق الإعلامي، وقد تكون هناك أسباب سياسية، أقول قد، ولا أجزم، من يدري؟ ربما!

    ولكن ما لا يغفل أبداً هو الاعتراف العام بتميز الكثير من التجارب "السورية" وهو شيء إيجابي ومحفز.

    يذكر أن الأديب "عبد الناصر حداد" من مواليد "دير الزور" 1972، درس الأدب العربي في جامعة "دمشق"، أصدر المجموعات الشعرية التالية :

    دمعة فقط .

    ذاكم دمي وعلي تشكيل النهار .

    خافقي زئبق ويدي كالغبار .

    حاز على العديد من الجوائز المحلية والعربية منها جائزة "سعاد الصباح" وجائزة شعراء بلا حدود.