لم يُنهِ خدمته في حقل التعليم إلا وهو راضٍ عن نفسه وعن ضميره الذي كان حاضراً في كل حصةٍ درسية طوال /24/ عاماً من العطاء لحظة الوقوف أمام التلاميذ على مختلف مراحلهم التعليمية، اليوم وبعد بلوغه العقد الثامن من العمر يجلس الأستاذ "عبد الحميد الخليل" وحيداً على أريكةٍ يستحضر ذكريات الماضي الجميل في هدوءٍ مُطبق؛ علّه يداوي بها شيئاً من حياة الشيخوخة التي ألمّت به وخطفت جزءاً من بصره.

لم يكن أمام "الخليل" في سنوات عمره الأولى إلا أن يتابع الدراسة والعمل معاً، لينشأ في عائلةٍ مؤلفة من ربة منزل وأخوين اثنين وأختٍ واحدةٍ وسط حالةٍ من الحرمان في ظل غياب رب الأسرة..

تزوجتُ في عام /1958/م ورُزقْتُ باثني عشر مولوداً /4/ ذكور و/8/ إناث؛ أما الذكور فاثنان منهم لم يُكملا تعليمهما وتوجها نحو تجارة الألبسة؛ والآخران أحدهما خريج معهد كهرباء والثاني طالب في كلية هندسة إنشاءات مائية، وأما الإناث فجميعهن خريجات من مختلف معاهد التربية

يقول الأستاذ "عبد الحميد": «توفي والدي وأنا في الصف الأول الابتدائي لذلك اضطررت للعمل مع إخوتي من أجل تأمين لقمة العيش ومصاريف الدراسة، فكنا نبيع الموالح ليلاً على عربةٍ جوالة، وفي الصباح نحمل حقائبنا ونتوجه إلى المدرسة، أما في العطلة الصيفية فكان العمل أكثر عناءً فإما نعمل مع البنائين أو مع العتالين؛ كل ذلك من أجل تخفيف النفقات عن كاهل والدتي التي كانت بمثابة أبٍ وأمٍ في ذات الوقت؛ فهي الأخرى كانت تعمل على نسج الصوف وتنجيد اللحاف والوسائد لكسب بعض الليرات حتى لا تُشعرنا بالحرمان».

الأستاذ "عبد الحميد" مع تلاميذه فترة السبعينيات

كغيره من التلاميذ كان "عبد الحميد" يحلم بأن يصبح مُعلماً في المستقبل ويختصر مشواره التعليمي حتى يتكفل برعاية أسرته، فيقول: «كل ما كنت أتمناه هو أن أصبح مُدرّساً لأن دخول الجامعة يتطلب سنوات ومصاريف أكثر من الدراسة في دار المعلمين؛ فبعد سنوات صعبة من العمل والدراسة نلتُ أخيراً شهادة الكفاءة وانتسبتُ إلى دار المعلمين بـ "حلب" لأتخرج مُعلماً بعد ثلاث سنوات، عُينت كمدرس للمرحلة الابتدائية خارج محافظة "دير الزور" عدة أعوام بعدها عدتُ إلى التدريس ضمن ريف المحافظة، في هذه الفترة من الاستقرار النفسي والمادي تقدمت لامتحانات الشهادة الثانوية وحصلتُ عليها، ثم تابعت الدراسة في قسم الفلسفة بجامعة "حلب" وبفضل دراستي الجامعية أصبح بمقدوري تدريس مادتي الفلسفة والتاريخ في المدارس الثانوية والإعدادية بـ"البوكمال"، وقد تم إيفادي فيما بعد إلى "الجزائر" لمدة ثلاث سنوات ضمن اتفاق التبادل العلمي بين "سورية" و"الجزائر" وبعد عودتي أكملت مسيرتي في التدريس قبل أن أتقاعد عام /1984/م».

ربما يتحول موقفٌ بسيط نتعرض له في حياتنا إلى خطوة نجاح تكون فاتحةً لنجاحات لاحقة؛ الأستاذ "عبد الحميد" تحدث لنا عن سبب نجاحه في عمله كمدرس قائلاً: «عندما كنت طالباً في دار المعلمين كان نظام الدراسة يومها يعتمد في السنة الثانية على اختبارنا، وذلك بإسناد مهمة إعطاء التلاميذ دروساً بوجود أحد المراقبين أو المديرين لتقييم أدائنا، وقد تم اختياري لتدريس موضوع في مادة الرياضيات يتعلق بوحدات القياس؛ يومها اتّبعتُ طريقة سهلة من أجل إيصال الفكرة؛ فقد اخترت أطول التلاميذ ثم أقصر منه ثم أقصر الجميع وطلبت منهم قياس طول الصف بعدد الخطوات ثم تسجيلها على السبورة، وبعد انتهائهم من تدوينها تبين للجميع بأن الأرقام متفاوتة وبذلك فهِم التلاميذ ماهية وحدة القياس (المتر) بطريقة بسيطة؛ وبناءً على ذلك حصلت من الإدارة على ثناء، وأصبحتْ هذه التجربة مفتاحاً لفتح أبواب النجاح فيما بعد».

الثاني من اليسار أثناء إيفاده للتدريس في "الجزائر"

معظم التلاميذ الذين درّسهم الأستاذ "حميد" قبل عقودٍ من الزمن أصبحوا اليوم أصحاب شهاداتٍ عليا وشغلوا مناصب إدارية في مختلف وظائف الدولة، فمن بين الأطباء الذين يتذكرهم الأستاذ "عبد الحميد" هم: «"محمد سهيل الخليل؛ تحسين الصگار؛ نبيل الصگار؛ أحمد قدوري؛ هاشم الجليد" أما المحامون فمنهم "جهاد المطرود؛ برهان الخليل؛ نجيب قدوري؛ أديب الدبس؛ كاظم الدبس" وأما المهندسون فمنهم "علي السحاب؛ جمعة العران؛ أحمد الأصيل؛ إياد السطم" ومن الأشخاص الذين شغلوا مناصب إدارية رئيس بلدية "البوكمال" السيد "محمد المديد"؛ ورئيس قسم الكهرباء السيد "وليد الهامان" ومدير الزراعة السيد "محمد السطم" بالإضافة إلى مئات المدرسين والمدرسات».

عُرف الأستاذ "عبد الحميد" بالجدية والالتزام بمهنته النبيلة؛ فقد كان دائم التواصل مع تلاميذه خوفاً على مستقبلهم التعليمي، المحامي الأستاذ "أديب الدبس" أحد التلاميذ الذين درّسهم الأستاذ "حميد" يقول: «يُعتبر قامة وكفاءة علمية له فضلٌ كبير على أبناء جيلي والأجيال التي سبقتني، كنت في الصف الثالث الثانوي عندما تعرّفتُ على هذا الإنسان الرائع؛ وبفضلهِ أحببتُ مادة الفلسفة؛ لم يكن لديه وقت للفراغ منذ دخوله الصف وحتى انتهاء الحصة الدرسية، ولحرصه الدائم على متابعة تلاميذه كان يتحاشى الغياب غير المبرر حتى الإجازات كان يصرف النظر عنها خوفاً من انتهاء الدوام السنوي دون أن يُكمل المنهاج، فقد كان حريصاً على إيصال المعلومة بشتى الطرق بحيث لا يخرج الطالب من الصف إلا وهو مستوعب الدرس، حقيقةً يصعب على اللسان وصف هذا المُدرس العظيم بجملٍ وكلمات؛ فهو بان حقيقي للأجيال».

الدكتور "هاشم الجليد" أحد تلامذة الأستاذ "حميد"

بدورهِ تحدث الدكتور "أحمد قدوري" عن أستاذه قائلاً: «حتى هذه اللحظة عندما أقابله أتذكر كل تفاصيل الماضي أثناء جلوسنا على مقاعد الدراسة وهو واقفٌ أمامنا وينصحنا بالمثابرة والاجتهاد، كان معروفاً بنوع العقاب الخاص به؛ ففي حال وجود إهمال من جانب أحد التلاميذ يقوم الأستاذ "حميد" بإمساك أرنبة أذنيه ويفركهما حتى يبكي هذا التلميذ ولا يكرر تقاعسه عن أداء واجبه المدرسي مرةً أخرى، كان جاداً منذ لحظة ابتداء الحصة الدرسية وحتى نهايتها لذلك عُرف بانضباطه والتزامه الشّديْدين».

لم يكن الأستاذ "حميد" مدرساً فقط؛ بل كان أباً حنوناً وصارماً في ذات الوقت مع تلاميذه؛ فيتحدث الدكتور "هاشم الجليد" قائلاً: «أصبح أستاذي عام /1967/م فهو من المُدرسين المُتميزين في تلك الفترة، كان يعتبر جميع التلاميذ أبناءً له لذلك كان يقسو علينا أثناء الدروس ومع ذلك لم نكن نشعر بالعنف الذي يتّبعه تجاهنا لأن تصرفه كان مشحوناً دائماً بعاطفةٍ أبوية جياشة نحونا، حتى هذه اللحظة أقف أمامه بكل احترام وإجلال لأنه صاحب رسالةٍ كبيرة وأظن بأنه أوصل تلك الرسالة بكل إخلاص وتفان واستطاع الاستحواذ على تقدير جميع من عرفوه».

(من شابه أباه ما ظلم) هذه العبارة كثيراً ما تتردد على ألسنة الناس الذين هم على صلة بالأستاذ "عبد الحميد" لأن معظم أولاده واظبوا على إكمال تعليمهم؛ فيقول: «تزوجتُ في عام /1958/م ورُزقْتُ باثني عشر مولوداً /4/ ذكور و/8/ إناث؛ أما الذكور فاثنان منهم لم يُكملا تعليمهما وتوجها نحو تجارة الألبسة؛ والآخران أحدهما خريج معهد كهرباء والثاني طالب في كلية هندسة إنشاءات مائية، وأما الإناث فجميعهن خريجات من مختلف معاهد التربية».

كلمةٌ أخيرة قالها الأستاذ "عبد الحميد" خلال حوارنا معه؛ ربما سيحسده الكثيرون منا على ما حقّقه من نجاح في مهنته التي كسب منها محبة واحترام الجميع: «أجمل شيء في هذه اللحظة هو أنني حقّقتُ رسالتي في الحياة كمربٍّ للأجيال؛ وأنا راضٍ عن نفسي لأنني عملتُ بما يملي عليّ ضميري وأكبر ثمرة جنيتها خلال مسيرتي في حقل التدريس هي تخريج الكثير من الكوادر وحاملي شهاداتٍ عليا ليصبحوا فيما بعد أشخاصاً يشاركون في تنمية المجتمع، والأجمل من كل ذلك هو محبتهم وتقديرهم لجهودي حتى اليوم؛ وكل ذلك يجعلني أتفاءل ولا أتحسر على سنوات عمري أبداً».

تجدر الإشارة إلى أن الأستاذ "عبد الحميد الخليل" من مواليد مدينة "البوكمال" عام /1939/م. انتسب إلى دار المعلمين بـ"حلب" سنة /1958/م وتخرّج فيها عام /1961/م درّس في الكثير من مدارس المنطقة الشرقية ابتداءً بمنطقة "الشدادي" في محافظة "الحسكة" ومروراً بمدارس "البوكمال" و"العشارة" في محافظة "دير الزور" حيث قام بمزاولة مهنته في التدريس بمدراس "البوكمال" وهي "فايز منصور" و"الأمين" و"المعري" وفي نهاية خدمته عُيّن كمعاون مدير في إعدادية "البعث". وذلك بعد نيل إجازة جامعية في الفلسفة عام /1972/م، وفي عام /1976/م تم إيفاده إلى "الجزائر" كمدرس للفلسفة وذلك بموجب التبادل العلمي بين الدولتين، وبعد عودته بعدة سنوات سلّم راية التعليم لأجيالٍ أخرى بعدما أكمل مهمته في هذه المهنة النبيلة.