عقودٌ من الزمن مرّت ولا يزال ذاك الرجل الثمانيني يجلس خلف ماكينة الخياطة بجسدٍ نحيلٍ حاضرٍ في المكان؛ وذهنٍ غائبٍ يلاحق سنوات الصبا التي أضاعها في غربةٍ نُسجت تفاصيلها بمرارة المعاناة والحنين إلى الماضي.

فلم يكن السيد "حنا" المعروف بـ"أبو سليم" يعلم بأن أغلى سنوات عمره ستتناثر وتتلاشى على ضفاف "الفرات" وفي حَواري مدينةٍ لم يحلم بها قط أو بزيارتها يوماً، لكنه بالنهاية أصبح أسير أمنياته وبات رقماً جديداً يُضاف إلى أرقام المغتربين ممن فارقوا مسقط رأسهم وظلّوا غرباء عنها.

لا أجد طقماً رجالياً يناسب قياسي في محلات بيع الألبسة الجاهزة، لذلك ألجاً إلى المعلم "أبو سليم" حتى يقوم بخياطة ما يناسب جسمي؛ فهو خياط محترف ومُحب لمهنته والأهم من ذلك يعمل بضمير

مهنة الخياطة هي التي شغلت تفكير "أبو سليم" منذ الصغر لذلك طوّر نفسه وفضّل مهنته حتى على تحصيله العلمي؛ فيتحدث قائلاً:

الخياط "حنا أبو سليم" بلغ العقد الثامن ولا زال محافظاً على تألقه في مهنته

«ولدتُ في "عامودا" عام /1939/م وعند بلوغي سن الثامنة كنت أتردد على أحد الخياطين هناك وذلك بعد انتهاء دوام المدرسة، ولعشقي الزائد لهذه المهنة كنتُ أعطيها أكثر وقتي دون دراستي، بعد فترة من الزمن اضطررتُ للسفر إلى "اسطنبول" والإقامة هناك لمدة ستة سنوات حيث أتممتُ دراستي حتى الصف السابع فقط؛ فيما تابعت مهنتي بالتعرف على أحدث الموديلات، عدتُ من جديد إلى موطئ قدمي بعدما تعلمت الكثير عن الخياطة، وانتقلت بعدها للعمل في "الحسكة" قبل أن أستقر في "البوكمال"».

من بلدة "عامودا" إلى مدينة "البوكمال".. رحلةٌ طويلة تفصلهما مئات الكيلو مترات؛ ومع ذلك كانت وجهة "أبو سليم" إليها مجرد مصادفة وتحولت فيما بعد من زيارةٍ مؤقتة إلى إقامةٍ دائمة؛ فيتابع حديثه قائلاً:

الخياط "خورشيد محمد"

«في عام /1956/م أتيتُ إلى "البوكمال" لوداع أختي المتزوجة، لأنني كنت سأسافر إلى "بيروت" للعمل، وعن طريق المصادفة التقيتُ أحد الخياطين في المدينة وبعدما عَلِمَ بحكاية سفري اقترح عليّ معاونته في العمل مقابل أجرٍ مُغرٍ، وبضغطٍ من أختي وافقتُ على العرض بشرط أن أسافر وأعود بعد أن أجمع بعض المال، لكن عاماً بعد عام طالت فترة مكوثي وغربتي وخاصة عندما تزوجت وصار لدي أطفال ومن حينها وحتى اليوم ما زلتُ أفكر وأمنّي النفس بالسفر والعودة».

اليوم مثل البارحة ومثل الأيام التي مضت خلال الأعوام الماضية؛ مجتهدٌ ومواظبٌ على عمله؛ نشيط لا يشغله شيء عن مهنته إلا الحنين لسنواتٍ خلت، يقضي جلّ أوقاته داخل محله الهادئ؛ فيقول: «مهنة الخياطة هي رفيقة دربي الطويل فلا أستطيع الابتعاد عنها، فمنذ الصباح الباكر أدخل إلى المحل ولا أخرج إلا بعد منتصف الليل إلا للضرورة؛ فأنا أعمل قرابة /15/ ساعة يومياً وهذه الحالة ترافقني منذ مجيء إلى "البوكمال" قبل /53/ عاماً، ولأن وجودي في المحل بات أمراً روتينياً مفروضاً عليّ لذلك ليس بمقدوري أن أتركه وإذا حاولت الخروج بعضاً من الوقت أعود على الفور لأنني لا أطيق العيش خارج هذه الجدران التي تحمل رائحة الأقمشة والخيوط».

الخياط "رعد الحاج عثمان" أحد تلامذة المعلم "حنا"

عاش أبو "سليم" وحيداً منذ سنوات عمره الأولى؛ ومع ذلك تفاءل بقادم الأيام بما تحمله من مفاجآت سارة تنسيه مرارة الوحدة؛ لكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه؛ فاليوم عاد وحيداً كما في الماضي؛ فيتابع حديثه قائلاً: «عشتُ وحيداً في صغري بسبب وفاة والدي ووالدتي وكل فردٍ من أسرتي مضى في سبيله بعد الزواج، وبقيتُ وحيداً فترةً طويلة، وعندما تزوجت وصار لدي عائلة مؤلفة من /4/ ذكور وابنتين، نسيتُ معاناة الوحدة والغربة بعدما ولج شيءٌ جديد حياتي، لم تدم هذه الحالة سوى عشرين عاماً؛ بعدها تشتت شمل عائلتي من جديد فالذكور منهم تزوج وسافر خارج المحافظة والإناث ابتعدن عن العائلة ورافقن أزواجهن أما شريكتي ففضلت المكوث عند أحد أبنائها في محافظة "الحسكة" وبذلك عدتُ إلى نقطة البداية وحيداً وليس في جعبتي إلا مزيدٌ من الذكريات».

"عامودا" تلك البلدة الوادعة الجميلة التي قضى فيها "أبو سليم" أجمل أيام طفولته صارت اليوم حلماً يراوده في لحظات سكونهِ أملاً بالعودة إليها؛ فيقول: «لم يبق من العمر ما يجعلني أندم على شيء، لكن ربما ألوم نفسي على بقائي بعيداً عن مكان ولادتي، فعلى الرغم من أنني ولدت وحيداً وسأبقى كذلك إلا أنني أشتاق لفترة الحرمان أيام الطفولة التي فقدتُ خلالها والديّ، ومع ذلك كان لدي قوة وإرادة للتغلب على وضعي آنذاك، أما اليوم فها هو الزمن يرجع بي إلى الوراء ويتكرر كل شيء أمامي كما في الماضي لكن الإرادة اختلفت؛ فلم أعد أملك تلك القوة للتأقلم مع وحدتي القاتلة».

السيد "عدنان الحجار" يعمل مع "أبو سليم" فيقول: «أتيتُ من "حلب" لأتعلم مهنة الخياطة على يد "أبو سليم" قبل أن آتي إلى هنا كان أخي موجودٌ في نفس هذا المحل قبل /30/ عاماً وبعد أن أتْقن هذه المهنة عاد إلى "حلب"، وفتح محلاً هناك ثم أرسلني لأحلّ مكانه عند المعلم "أبو سليم" فهو من الخياطين المحترفين في هذه المهنة ويتمتع بخبرة طويلة في هذا المجال».

الخياط "خورشيد محمد" يملك محلاً للخياطة بجوار "أبو سليم" يقول: «هو أفضل الخياطين ممن يتقنون خياطة الأطقم الرجالية، فانا أعرفه منذ عام /1985/م يعمل بإتقان منذ ذلك الوقت وحتى الآن مستمر على ذات الأداء لذلك يحافظ على سمعته المهنية، فمنذ مجيئه إلى "البوكمال" وحتى اللحظة لم يطرأ عليه أي تغيير من ناحية التعامل مع الآخرين؛ فدائماً تراه منشغلاً بعمله حتى ساعات متأخرة من الليل ويفضل عمله حتى على العلاقات الاجتماعية».

الخياط "رعد الحاج عثمان" /40/ عاماً وهو أحد الخياطين الذين تعلّموا هذه المهنة على يد "أبو سليم" يقول: «عندما تعرّفتُ عليه كنتُ مبتدئاً في مهنة الخياطة وبعدما سمعتُ عن خبرته؛ قررتُ العمل معه، فأمضيتُ خمس سنوات عنده علّمني خلالها أموراً في الحياة كنت أجهلها فقد وهبني الصبر وتحمل الضغوط النفسية؛ كان يعتبرني مثل ابنه فيروي لي عن حياته وتجاربه الطويلة، حقيقةً لم أجد حتى الآن خيّاطاً يُتْقِنُ عمله مثل "أبو سليم" لذلك ترى محله مكتظاً بالزبائن من داخل المدينة وخارجها».

السيد "فراس محمود" زبونٌ دائم للمحل يقول: «لا أجد طقماً رجالياً يناسب قياسي في محلات بيع الألبسة الجاهزة، لذلك ألجاً إلى المعلم "أبو سليم" حتى يقوم بخياطة ما يناسب جسمي؛ فهو خياط محترف ومُحب لمهنته والأهم من ذلك يعمل بضمير».

أما السيد "حمد العريف" فلا يجد أفضل من "أبو سليم" يلبي طلبه؛ فيقول:

«أنا أعمل في دولة "الكويت" وكل سنة لدي إجازة واحدة أزور خلالها أهلي في "البوكمال"، وفي كل مرة أجلب كمية من الأقمشة حتى أقوم بتفصيل عدة أطقم عند المعلم "أبو سليم"، لأنه يعرف طلبي وله نظرة في الموديل الذي يناسبني، فمنذ خمسة أعوام وأنا أقصد هذا المحل وقبل هذه الفترة كان والدي أيضاً زبونٌ دائم هنا».