الوجود الدائم للموسيقا في المنزل، دفع الموسيقي "موسى الياس" إلى الغوص في بحورها بالارتكاز على جذور اغتنت بها بيئته الجغرافية والاجتماعية، فقدم أصولاً موسيقية سورية بروح عصرية على المسارح العالمية.

الحكاية مع الموسيقا بدأت من قصة جميلة مع آلة العود الذي تم ربحه في اليانصيب، ووضع في خزانة الأم حرصاً على متابعة الدراسة، وهنا كان الحديث لتعميق الحب معه والدراسة الأكاديمية له في أكثر المعاهد العالمية تخصصية، قال لمدونة وطن "eSyria" بتاريخ 25 آب 2017: «والدي عازف وشماس في الكنيسة، ووالدتي تملك صوتاً جميلاً أطربني بالأغاني التراثية؛ وهو ما أثر فيّ كثيراً ودفعني إلى تعلم الموسيقا ببحورها الواسعة، فالبيئة كانت لها الأثر الإيجابي الكبير في البحث عن الأصول الموسيقية السورية، وخاصة فيما يتعلق بالموسيقا التراثية، كأغاني الحصاد والأعمال التراثية المختلفة، ومنها الحزينة التي لها وقعها الخاص، وكل هذا بالاعتماد على جينة فطرية كانت المحرك والمحفز للتميز فيما أنا مقدم عليه.

ما يقدمه الموسيقي "موسى" يعدّ خلاصة تجارب ودراسة تخصصية معمقة، فهو متمكن جداً مما يقدمه، والجميل اعتماده على الجذور التراثية للأصول الموسيقية السورية؛ وهذا أنتج حالة فنية راقية في المغترب تجاه الجالية السورية

بوجه عام منطقة "الجزيرة السرية" فيها أجواء موسيقية راقية مشبعة بها طبيعة الناس، كالموسيقا السريانية والعربية والتركية والبدوية والعراقية، وهذا أثر فيّ ونضج معي بعد التخصص الموسيقي، وترتب بعيداً عن العشوائية الشائعة في الموسيقا، وخلق لدي حالة وذاكرة كاملة كانت الأساس في المشاريع الموسيقية التي اشتغلت عليها في "استوكهولم" ومازلت. كل هذا خلق لدي حالة توازن خلصتني من كثير من الشوائب الحياتية والتقاليد المملة المريضة».

الموسيقي موسى الياس

رقي الموسيقا من رقي الحالة الإنسانية المنتجة لها، وعليه فإن حالة التوازن الذاتي تكون إيقاعية، وهنا قال: «الأغنية موسيقا، والقصيدة كذلك تحوي موسيقا الشعر والإيقاع والهارموني، والموسيقا تمزج ما بينها، فتحوي حالة شعرية وإيقاعية وتاريخية معينة، وكلها مرتبطة بعضها ببعض لتكوّن قصة الفن، وتخلق حالة التوازن التي ترجعني إلى الإنسانية الأخلاقية، ومنها كانت الموسيقا الدرامية والانتقالات السلسة البسيطة بالنسبة لي تخصصية. وما يهمني أن يخلق العمل الموسيقي حالة التساؤل لدى المتلقي، التي تدفعه إلى التفكير بمحيطه بطريقة مختلفة عن المعتاد، فيعيد ترتيب أفكاره بعيداً عن الطرب الانفعالي، باستخدام الموسيقا الدرامية؛ وهذا ما اشتغل عليه الأوربيون لسنوات طويلة، حتى تمكنوا من الوصول إلى قالب السونات الذي يعبر عن الموسيقا الدرامية بأسلوب سليم يكسر المفاهيم التقليدية، مع إدخال عنصر المفاجأة، وهو القفزة النوعية في الموسيقا بعيداً عن الأجناس».

إذاً، التراث الموسيقي تطور أبدي يعتمد الفهم الحقيقي للأغنية التراثية الشعبية، والعودة إلى فكرة التأليف الموسيقي، باعتماد الفكرة الموسيقية الأولى بالعمل، والعمل على تطويرها إلى حد الإشباع، بعيداً عن التبعثر، وهذا مفهوم يشتغل عليه، ويضيف: «إيصال العمل والفكرة الموسيقية إلى حد الإشباع يحتاج إلى الدراسة العميقة التحليلية للتراث، الذي يعتمد المقام بالدرجة الأولى، حيث يدرك أوجه الاختلاف بين كل مقام، وما هي الإضافات التي دخلت إلى كل منها حتى تطورت، فنحن بحاجة إلى البحث الموسيقي الأكاديمي السليم للحصول على الهيئة الحقيقية السليمة للموسيقا، حيث تبدأ هذه العملية البحثية بجمع التراث الحقيقي. وهذا التراث ليس موجوداً كما يظن بعضهم في المدن، وإنما في الأرياف. إذاً، من أراد الإبداع عليه التوجه نحو الأرياف للحصول على جذور الموسيقا التي لم تشوّه، كما فعل "باخ" و"كوميداسي" في "أرمينيا"».

خلال احدى الحفلات

التعصب للموسيقا السورية عنوان في مجال الأبحاث الموسيقية التي قدمها على المسارح العالمية خلال غربته عشرين عاماً في "السويد"، وأوضح ذلك بقوله: «في البداية درست الموسيقا السورية دراسة معمقة، وقدمت حلقات بحث كثيرة فيها على أهم المسارح العالمية، لكن هذا ليس طموحي، وإنما طموحي بالعمل المؤسساتي لهذه الأبحاث الموسيقية، ليكون لها كيانها وخصوصيتها، ومن أهم الأبحاث: "المقام في الموسيقا المعاصرة"، لذلك لدي مشروع عائلي يعتمد العودة إلى "سورية" وإنشاء أكاديمية صغيرة للفنون تقدم أبحاثاً موسيقية سورية؛ لأنني مؤمن بأن تطوير الموسيقا السورية سيأتي من عملية فهمها الجيد وكتابة الأبحاث السليمة عنها لتكون منهجاً ومرجعاً للمهتمين».

بالعودة إلى البدايات، يمكن القول إن دراسته للعود في سن مبكرة في "الحسكة" بإشراف الموسيقي "صليبا حنا" ومتابعته لهذه الدراسة على يدي "مصطفى الدرويش" في "حلب"، ثم في "القاهرة"، وبعدها ضمن معهد لبناني، كان تأطيراً لما وصل إليه في المغترب، وقال: «تخصصت في التأليف الموسيقي والموسيقا السينمائية، مع التدريس في ذات المعهد التخصصي في "استوكهولم"، وأسسنا فرقة تقدم الموسيقا السورية والعراقية بالدرجة الأولى وهي موجهة للجالية هنا، وأخرى تقدم الموسيقا السورية فقط، وبالتعاون مع المؤسسة الموسيقية التي أعمل معها، بالاعتماد على الموشح والقدود والأغنية الشعبية، من أجل هدف واحد، وهو خلق ذات الأجواء التي كانوا يعيشونها في بلادنا».

الموسيقي بشر عيسى

ويتابع: «أشعر بأنني ناضج فنياً بعد كل سنوات الغربة والدراسة الموسيقية التخصصية، وهذا كوّن لدي رغبة بالعودة إلى بلادي لتقديم زبدة ما لدي من تخصص موسيقي وتأليف، لأن الصورة المتخيلة للموسيقا بوجه عام هي فرح وجمال من الواقع، لذلك موسيقياً أرضي ذاتي أولاً، وقد أتوجه لإرضاء المتلقي، وهذا ليس أنانية، وإنما إشباع لحاجة، والشرط ألا تتأثر القيمة الفنية للعمل بأي توجه، وفي الأغلب ما يقدم ينال إعجاب الجمهور. ومع تكرار التجارب سيخلق الجمهور الخاص لهذه النوعية من الأعمال الفنية، وقد تتكون في النتيجة مدرسة موسيقية خاصة جديدة».

وفيما يخص الاستفادة من التكنولوجيا الحديثة في مجال التأليف الموسيقي، قال: «من لا يواكب التقدم العلمي التكنولوجي، يبقى في مرحلة يحتاج إلى زمن كبير لينتقل منها نحو الأفضل، ففي البرنامج الموسيقي الذي أستخدمه لـ"التنويت" الموسيقي -وهو إلكتروني- يمكنني تقديم نوتة خالية الشوائب؛ وهذا اختصر الوقت والجهد، وخدم في إتقان التكنيك على المسرح».

وفي لقاء مع المغنية الأوبرالية "سوزان حداد"، قالت: «في الوقت الذي يهاجر فيه المبدعون من أبناء بلدي نرى من يحاول التمسك بالتراث المؤسس لموسيقا عالمية، فالموسيقي "موسى" يمتلك مخزوناً كبيراً من الثقافة والعلم الخاص بالموسيقا؛ وهذا انعكس على ما يقدمه في مجال العزف والتأليف، فهو يُعدّ مرآة تعكس موسيقانا في الغرب».

أما الموسيقي "بشر عيسى"، فقال: «ما يقدمه الموسيقي "موسى" يعدّ خلاصة تجارب ودراسة تخصصية معمقة، فهو متمكن جداً مما يقدمه، والجميل اعتماده على الجذور التراثية للأصول الموسيقية السورية؛ وهذا أنتج حالة فنية راقية في المغترب تجاه الجالية السورية».

يشار إلى أن الموسيقي "موسى يوسف الياس" من مواليد "دير الزور"، عام 1969، ومقيم في "استوكهولم".