استطاع "عباس عبد الله مهجع" أن يكسر قاعدة أن مصطلح مؤرخ مرتبط برجل كبير العمر، مدفوعاً برغبة وإرادة كبيرتين، بعد أن جمع الكثير عن تاريخ محافظته وأماكنها وعاداتها وشخصياتها، وقدمها في سياق محبّب إلى متابعيه، مستغلاً انتشار استخدام مواقع التواصل الاجتماعي الكبير.

"عباس عبد الله مهجع" (30 عاماً) ابن محافظة "دير الزور"، المقيم في "السعودية" منذ عام 2010، الذي تضم صفحته على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك" آلاف المتابعين لما يكتبه عن تاريخ مدينته وعاداتها وتقاليدها، وعنه يقول رجل الأعمال "جابر الجابر" (من متابعي صفحته): «حين يذكر مصطلح مؤرخ، سيخطر ببالنا فوراً شخصية في الستين أو الخمسين من العمر على الأقل؛ وهذا أمر منطقي، فحتى يصبح الإنسان ملمّاً بتفاصيل منطقة ما، أو مجموعة من الأحداث التاريخية، لا بد له أن يكون قد أنفق سنوات كثيرة من عمره في البحث والتوثيق، حتى يستطيع الوصول إلى هذه القدرة على الإحاطة بأحداث وتواريخ لا يعرفها السواد الأعظم من الناس، حيث استغل الإقبال الكبير على "الفيسبوك"، ليقول للجميع: هذه "دير الزور"، وهذا تاريخها».

عندما تكون مخلصاً في عملك، فإنك تفرض نفسك على الساحتين الشخصية والمهنية، هكذا عرفت "عباس" منذ البداية، شخصاً مخلصاً في عمله محباً لما يقدمه إلى متابعيه، وأنا ككل متابعي "عباس"، أتذوق نكهة الأجواء الفراتية وبساطة الحياة الديرية بوجه عام. وفي الوقت الذي كان الكثيرون منا تجرفهم تيارات مواقع التواصل الاجتماعي ليكونوا منفعلين، عرف هو ببساطة كيف يكون فاعلاً في هذا الميدان

مدونة وطن "eSyria" تواصلت مع "عباس" بتاريخ 4 كانون الأول 2016، وسألته بداية عن سبب اهتمامه بجمع التراث الديري، فقال: «ما أقوم به له عدة أسباب، فغير التعلق الشديد بمدينتي "دير الزور" التي هي أغلى ما عندي -وهو أمر طبيعي- هناك الخوف من ضياع تاريخ وتراث هذه المدينة التي تتعرض إلى تدمير وسرقة ممنهجة بسبب الحرب، إضافة إلى التغيرات الديموغرافية القسرية التي حدثت نتيجة وفود غرباء إلى هذه المحافظة ريفاً ومدينة؛ كل هذه الأمور ستؤدي -إن لم نتحرك بسرعة- إلى ضياع تاريخ وتراث هذه المحافظة، واندثاره بكل ما تعنيه الكلمة».

د. أيمن الآغا

وأضاف "عباس": إن الخوف من ضياع هذا التراث يكبر حين نعلم أن شبكة الإنترنت تكاد تخلو من أي محتوى رقمي عن "دير الزور" وتاريخها، وهذه مشكلة كبيرة، حيث يتم ذكر المدينة وحدودها الجغرافية الإدارية، وعدد سكانها، وما تنتجه من محاصيل ونفط وغيرها فقط. أما لو حاولنا البحث عن تاريخ وعادات وتراث "دير الزور" عبر الإنترنت، فلن نجد أكثر من بعض المقالات التي نشرت في بعض وسائل الإعلام، والتي لا تكفي ولا تفي هذه المحافظة حقها من التوثيق والتأريخ، لذا نذرت الكثير من وقتي للعمل على توثيق كل ما يخطر في البال عن هذه المحافظة، من التاريخ إلى الأبنية إلى الشخصيات والأحداث، إلى الأطعمة المشهورة والألبسة التقليدية وكل ما يخصها».

وعن مصادر "عباس" لجمع هذا التراث، يقول: «لا يوجد مصدر محدد، بل أحاول الاستفادة من كل ما يغني المادة التي أتحدث عنها؛ فبعض المواد أعتمد فيها على كتب تراثية معروفة أنقل منها، وأحداث أخرى أتحرى عنها من الناس بأسلوب شخصي، وأسعى إلى الحصول على عدة روايات لمقاطعتها ومعرفة إن كان في أحدها مبالغات أو قصص غير صحيحة. لكن الكتب التي تتحدث عن تاريخ "دير الزور" كثيرة، مثل كتب المؤرخ والباحث الكبير "عبد القادر عياش"، والكاتب "عباس طبال"، والكاتب "أحمد شوحان" رحمهم الله، لكن -يا للأسف- هي كتب ورقية فقط، وغير موجودة على شبكة الإنترنت».

د. تحسين برغوث

الطبيب "أيمن الآغا" من المهتمين بالتراث والفلكلور الديري، يقول عن "عباس": «عندما تكون مخلصاً في عملك، فإنك تفرض نفسك على الساحتين الشخصية والمهنية، هكذا عرفت "عباس" منذ البداية، شخصاً مخلصاً في عمله محباً لما يقدمه إلى متابعيه، وأنا ككل متابعي "عباس"، أتذوق نكهة الأجواء الفراتية وبساطة الحياة الديرية بوجه عام.

وفي الوقت الذي كان الكثيرون منا تجرفهم تيارات مواقع التواصل الاجتماعي ليكونوا منفعلين، عرف هو ببساطة كيف يكون فاعلاً في هذا الميدان».

جسر دير الزور المعلق

ويتابع: «قد تكون المصادفة التي جمعتني به هي ما سمح لي أن أكتب عن بدايات الكتابة عنده، فقد كان يوثق ببساطة، كان كاميرا تصور الأحداث كاملة بسلبياتها وإيجابياتها بروح مرحة تارة وبمسحة حزن تارة أخرى يحتاج إليها القارئ لكي يعيش اللحظات التي يتكلم عنها، باختصار كان حكواتياً فراتياً بامتياز، بسيطاً، واضحاً، انفعالياً أحياناً، لكن الأهم من كل هذا أنه كان يتحرى الدقة فيما يكتب وعمن يكتب مع إبقاء الباب مفتوحاً لأي إضافة؛ وهو ما يعكس احتراماً واضحاً للآخر».

أما الدكتور المهندس "تحسين برغوث"، من متابعي "عباس" أيضاً، فيقول: «تتميز كتاباته بشموليتها، مع القدرة على ذكر التفاصيل الدقيقة، حيث إن من يقرأ أي موضوع يشعر بأنه ضمن أو مع هذه التفاصيل، فيرتسم لديه شريط سينمائي ملون رائع، كما أنني لاحظت أنه لا يقوم بكتابة أي موضوع إلا إذا قام بعدة أبحاث وأسئلة واستفسارات لعدة أشخاص قد تكون لديهم معلومة ولو صغيرة عن الموضوع؛ لإغنائه وكتابته بصورة مبسطة لكنها متميزة.

أتوقع له مستقبلاً باهراً في البحث والتوثيق، وسيكون مكسباً لنا ولمحافظتنا وبلدنا وفراتنا».

في النهاية ناشد "مهجع" عبر مدونة وطن أبناء "دير الزور"، لتبني مشروع نقل كل الكتب التراثية والتوثيقية التي تتحدث عن "الدير" إلى شبكة الإنترنت، ومساعدته بهذا الخصوص، موضحاً أنه حالياً يقوم بالتواصل مع مجموعة كبيرة من أبناء المحافظة للحصول على هذه الكتب وإيجاد الطريقة المناسبة لنقلها إلى الشبكة.

يذكر أن "عباس مهجع" من مواليد "دير الزور"، عام 1986، حاصل على شهادة معهد صناعي.