ليتذوق طعم الحياة أدرك ومنذ سنوات عمره الأولى انه لن يجعل من فقده لحبيبتيه (عينيه) الحد الذي يقف عنده أو أن يكون هذا الوضع هو المحبس الذي سيرهن نفسه له ويقيدها به، هذه القناعة شكلت له باعثا قويا ليحيا كما يشاء، فكانت الشقاوة كما يصفها ويعرفها من حوله عنوانا لمرحلة الطفولة، ليبدأ بعد ذلك برسم ملامح المستقبل فكان التعلم هو الخيار الذي مازال يمضي فيه طالبا في قسم التاريخ على مقاعد جامعة "دمشق".

"تيسير أبوعرة" شاب أنكر مصابه فكانت أفعاله مدهشة للمبصرين من حوله وإلا فكيف لفاقد بصره أن يقود دراجة أو سيارة أو يتنقل وحيدا بين مدن وقرى المحافظة؟ أفعال وان كانت تصل إلى حد التهور أحيانا إلا أنها وبلا شك تحمل الأمل بأن على الأرض ما يستحق الحياة.

رغم انه يغضب كثيرا إلا أنه لديه أسلوب مميز في التعليم وبفضل أتعابه معنا استطعنا أن نخطو خطوة جيدة في طريق التعلم على الحاسب، انه شاب طموح ويعمل بجد ما يجعله قدوة يحتذى به

موقع درعا التقى الشاب "تيسير" ليحدثنا عن نفسه ونشأته، يقول: «أنا من مواليد عام ألف وتسعمئة وستة وثمانين، دخلت مدرسة المكفوفين في "دمشق" عام ألف وتسعمئة واثنين وتسعين وحصلت فيها على الشهادات الدراسية الابتدائية والإعدادية والثانوية، لم أكن مقتنعا في مرحلة الطفولة بأنني لا أرى هذا الأمر مكنني من أن أمارس شقاوة الأطفال كما أريد فكنت أقوم بأعمال محط استغراب الآخرين وعلى رأسها ركوب الدراجة وحدي، كما كنت في حال شجار دائم مع الأطفال الذين كانوا يرفضون إشراكي معهم باللعب الأمر الذي غالبا ما كان ينتهي بقبولهم بالأمر الواقع، وبعد ذلك صار لا بد من التفكير بشكل جدي في الحياة، فحصلت على الشهادة الثانوية وكنت اطمح بالدخول إلى كلية الحقوق ولكن كثافة المنهاج في هذا الفرع أمر كان يحتم وجود شخص يرافقني طوال أعوام الدراسة ليساعدني في تسجيل المحاضرات التي كانت العائق الذي منعني من دخول هذا المجال فتوجهت إلى قسم التاريخ حيث الأمور أسهل واقل تعقيدا».

في احدى الحصص التعليمية

ويضيف "تيسير": «لم اكتف فقط بدراسة التاريخ فقد تولدت لدي الرغبة بالتعلم على الحاسب وذلك بعد أن عرفت بوجود برامج تمكن المكفوفين من التعامل مع هذا الجهاز فقمت بالتسجيل في إحدى الدورات الخاصة استطعت أن اخرج منها بنتيجة جيدة تمكنني من العمل على الحاسب بشكل جيد، بدلت بعدها بتطوير نفسي في هذا المجال ذاتيا حتى وصلت إلى مرحلة تمكنني من تدريس وتعليم المكفوفين وهو العمل الذي أقوم به الآن في مشروع إبصار الذي تحتضنه مديرية الثقافة في محافظة "درعا"».

وعن مشروع إبصار ودوره فيه يقول: «إبصار هو مشروع يهتم بتعليم المكفوفين التعامل مع الحاسب وأنا أرى فيه خطوة جيدة فقد حقق رغبتي بأن يتجاوز جميع المكفوفين في المحافظة إعاقتهم وان يتوجهوا للتعلم، أقوم في هذا المشروع بتعليم مجموعة من المكفوفين والمكفوفات الذين تمكنت من إقناع معظمهم من الالتحاق بالمشروع، وقد دفعتني رغبتي بان يتعلم المكفوفون على الحاسب إلى أن ازور العديد من قرى ومدن المحافظة من أجل تنصيب أحد البرامج القارئة للشاشة والخاصة بالمكفوفين من اجل تشجيعهم على الاستمرار في هذا الطريق رغم جميع الصعوبات التي كنت أواجهها أثناء التنقل».

مع صديقه احمد الشريف

وعن الصعوبات التي يواجهها يقول: «أنا اعتبر نفسي شخصا محظوظا إذ لا أجد شيئا يصعب علي ولكن تبقى هناك بعض الأشياء الصعبة التي لا تنطبق علي وحدي وإنما على جميع المكفوفين تقريبا ومنها النظرة الناقصة من بعض الناس الذين يرفضون تقبل فكرة أن الكفيف لا يختلف عن الآخرين بشيء، فكثيرون هم الذين يستوقفونني حين أكون سائرا وحدي ليبدؤوا بإلقاء المواعظ علي بألا امشي وحيدا، وكأنني بحاجة دوما لراع يرعاني هذا الأمر يزعجني ويؤثر في كثيرا».

وعن آماله وطموحاته يقول" تيسير": «في هذه المرحلة أتمنى أن يكتب النجاح لمشروع إبصار وان يتطور هذا المشروع ولاسيما على مستوى التجهيزات وأعداد المنتسبين إليه، كما أتمنى أن يتم تشكيل جمعية للمكفوفين بالمحافظة وان ينظر إلى مستقبلهم الوظيفي بعين الاعتبار».

لامستحيل مع الحياة

مدير مديرية الثقافة في "درعا" الدكتور "احمد الحمادي" يقول عن "تيسير": «صحيح أن تيسير من الشباب الذين فقدوا نعمة البصر إلا انه ذو بصيرة نافذة وعقل راجح وإرادة قوية تجعله قادرا على أن يتخطى حالته وأن ينخرط في الحياة بجميع مجالاتها، الأمر الذي جعل له أفضال كبيرة على مديرية ثقافة "درعا" من خلال تعليمه لمجموعة من المكفوفين كيفية التعامل مع الحاسب، لذلك يمكن القول وبحق انه من الشباب الذين نفخر بوجود أمثالهم في هذه المحافظة».

صديقه "احمد الشريف"يقول: «تعرفت على "تيسير" منذ سنتين وقد رغبت في مصادقته بعد ن أذهلني بتصرفاته كتجوله وحيدا في المدينة وأيضا ذهابه وحيدا إلى العاصمة وقيادة السيارة وركوب الدراجة والتعامل مع الحاسب، هذه الأفعال خلقت لي الرغبة بان يكون صديقي وهذا ما حدث، في بداية الأمر كنت انظر إليه بعين الشفقة ولكن بعد أن عرفته جيدا تحولت هذه الشفقة إلى حب عظيم وبدأت أتأكد أنه لا يختلف عن المبصرين في شيء».

"خديجة طباشة" إحدى المتدربات في مشروع "إبصار" تقول: «رغم انه يغضب كثيرا إلا أنه لديه أسلوب مميز في التعليم وبفضل أتعابه معنا استطعنا أن نخطو خطوة جيدة في طريق التعلم على الحاسب، انه شاب طموح ويعمل بجد ما يجعله قدوة يحتذى به».