"يونس سليمان غزلان".. وذكريات من عمر الخامسة في رحلته في هذه الحياة، أربعة أعوام هي كل ما يحتاجه ليتم عامه المئة، هذه الرحلة الطويلة كان لابد أن يقدم خلالها بعض التنازلات أو أن يحظى ببعض الخسائر ولاسيما على مستوى الجسد والصحة، فها هو الظهر قد انحنى، وها هو السمع قد ذهب مع الريح، والخطوات باتت ثقيلة تعينه فيها ساق ثالثة أطلق لها العنان لتساعده على المشي في الدرب الوحيد الذي مازال يحفظه إنه درب المسجد، بعد أن كان مشاء ألفته الأغلبية العظمى من دروب المدينة التي كان يسير فيها موزعا ألغازه وساردا من أرشيف الذاكرة ما كان بمقدوره أن يسترجعه من قصص وحكايات على أي مجموعة يمكن أن يلتقيها، ذلك السيد هو" يونس غزلان" الذي ماتزال تدب في أوصاله حيوية الشباب ونشاطه، أمر تلمسناه من خلال عمله بحديقته الخاصة والمتواضعة والتي رفض أن يسلمها لاجتياح الاسمنت الذي سيطر على كامل أرجاء منزله الريفي عدا هذه البقعة التي مازال يمارس فيها طقوس الزراعة وعلى مدار كامل العام.

موقع درعا كان على موعد مع" السيد يونس غزلان" الذي التقاه في منزله في مدينة "داعل" والذي بادر بالحديث عن نفسه فقال: «أنا من مواليد عام ألف وتسعمئة وأربعة عشر وكنت الابن الأصغر لأسرة مكونة من خمسة إخوة وأختين توفيت والدتي وأنا بسن الخامسة فكفلتني زوجة والدي وكانت حياة الأسرة بمجملها منصبة على العمل في مجال الزراعة التي كنت أشارك فيها منذ أن كنت طفلا صغيرا، تلقيت التعليم لعام واحد فقط وتركت بعد قصة حدثت معي مفادها أني تشاجرت مع احد الطلاب فقرر الأستاذ أو "الخطيب" كما كنا نسميه معاقبتي بضربي عشرين عصا وبعد أن نفذ العقوبة هربت من "الكتاب" وغادرت القرية لمدة يومين حين قرر "الخطيب" إرجاعي غصبا لأتابع التعليم، فأعادني والدي إلى البيت مستجيبا لرغبتي بعدم إكمال التعليم، وكان كل ما حصلته من العلم أن حفظت سورة "الضحى" مع عدد قليل من سور القرآن».

مايزال والدي يحافظ على ذاكرة العمل، فقد أجبرنا أثناء تجديدنا للمنزل على أن نبقي له على مساحة صغيرة للزراعة، وهو يعمل فيها على مدار العام ، يحب الصلاة في المسجد، صحته جيدة عدا بعض المشاكل في السمع والبصر، ويمضي اغلب يومه إما في حديقته أو ملاعبا لأحفاده

ويتابع السيد "يونس" فيقول:«في سن الخامسة عشرة غادرت القرية متجها إلى فلسطين لتبدأ مرحلة جديدة استمرت قرابة عشرين عاما وكانت بدافع العمل الذي كان يدر علي ربحا ما كنت لأحلم بمثله في القرية، كنت اعمل في النهار أعمالا مختلفة كطحن القهوة أو في الأسواق أما في الليل فكنت اتجه للعمل في المينا، بعد ذلك وحين بدا يشتد الصراع بين العرب واليهود عدت إلى قريتي، فكانت الزراعة والعمل في الأرض هي المجال الوحيد للعمل فكان أن عملت "مرابعاً" لفترة ثم بدأت بالعمل وإدارة الأرض التي نملكها الأمر الذي استمر في السنوات اللاحقة».

السيد يونس غزلان

قد تغفو الذاكرة ولكن ثمة أحداث لا يمكن أن يلفها النسيان، فما هي الذكرة التي مازال السيد "يونس" يحملها معه وهو يقف على أبواب المئة؟ يقول: «كان ذلك عندما كنت في الخامسة من عمري حين خرج أخي "عبد اللطيف" ليعيد أبقار لنا كانت ترعى خارج القرية وكان يحمل معه بعض النقود وفي الطريق صادف ثلاثة خيالة من الأتراك فعرض عليهم أن يشتري منهم بندقية وحصاناً فوافقوا وحين شاهدوا النقود التي معه أخذوها بعد أن قتلوه وولوا هاربين، فجاء احد الرعاة الذي كان شاهدا على كل ذلك ليخبرنا بما جرى، فاصطحبتني إحدى أخواتي إلى مكان الحادث حيث كان أخي مايزال ملقى على الأرض وهو غارق بدمائه وكان قد فارق الحياة، هذا الحدث سبب لنا صدمة كبيرة وخصوصا والدتي التي فارقت الحياة هي الأخرى بعده بأشهر قليلة حزنا عليه».

خروج الأتراك ودخول الاحتلال الفرنسي أحداث عاصرها السيد يونس وعن ذلك يقول: «في أواخر الحكم العثماني صار يطلق على الأتراك اسم الدولة المكسورة ولا أزال أتذكر خروجهم من هنا بعد أن كانت تتم مطاردتهم من قبل الأهالي، تلا ذلك فترة الحكم العربي والتي استمرت لعامين، إلى أن دخل الفرنسيون البلاد لتبدأ مرحلة من العذاب والحكم الجائر، لقد عانينا مع الفرنسيين الشيء الكثير فمنذ دخولهم إلى هذه البلاد قاموا بفريضة على كل شخص مقدارها "5" ليرات عدا الإهانة والضرب وكان أي شخص عرضة لذلك دون أي سبب يذكر، كما أنهم كانوا يتحكمون بأرزاق الناس فالفلاح الذي كان يمضي عامه كاملا يعمل ويشقى في أرضه لم يكن يجني من ذلك كله إلا التعب والشقاء لأنه كان على الأغلب مرغما على تقديم محصوله للفرنسيين بأبخس الأثمان».

في حديقته الخاصة

هذه المضايقات قابلها الناس أحيانا بالطرفة والتندر من الفرنسيين، ومن ذلك هذا الموقف الذي مازال السيد "يونس" يذكره: «بعد ان رفض أحد أبناء القرية أن يبيع كيسين من القمح للفرنسيين الموجودين فيها، قرر أن يتجه إلى منطقة "خربة غزالة" ويبيعهما هناك، فاصطحب حماره الذي كان يحمل كيسي القمح وذهب إلى هذه "الخربة"، وهناك وفي السوق قرر أن يشتري رغيف خبز ويأكله، وذلك بمراقبة الجنود الفرنسيين الذين جاؤوا إليه وطلبوا منه أن يحمل الكيسين بدلا من الحمار وان يشتري له رغيف خبز، فرد عليهم بأن قال: لو كنت اعرف أن لهذا الحمار أبناء عم هنا ما كنت أكلت رغيف الخبز».

"عبد السلام أبوجيش" مدرس تاريخ يقول عن السيد "يونس غزلان": «السيد يونس غزلان أنا اعتبره ذاكرة جمعية لهذا المكان "داعل"، لا اذكر مرة في حياتي صادفته فيها إلا ودار بيننا أحاديث سريعة ومقتضبة والتي تكون غالبا على شكل سؤال رياضي كأن يسألني "ثلث الثلاث قديش" وهو السؤال الأحب على قلبه، يبدأ بعدها بسرد القصص والتي تختزل أجيالا عديدة دون أن ينسى أن يخبرنا عن مغامراته في "حيفا" و"يافا"، اليوم وبعد أن التزم السيد "يونس" بيته بتنا نفتقد لهذه الذاكرة الجمعية المتنقلة».

مع ابنه الدكتور اسماعيل

أما جاره السيد "عبد الكريم الخليلي" فيقول عنه: «يعد السيد "يونس" من الأشخاص المعروفين لدى الأغلبية في هذه المدينة وذلك لكونه أحد المعمرين الذين غالبا ما تدور الأحاديث عنهم وعن حياتهم كيف عاشوها، والتي يمكن القول بأنه أمضى القسم الأكبر منها يعمل ويشقى الأمر الذي جعله يرتحل ويسافر إلى العديد من الأماكن لتكون بعد ذلك حياته حافلة بالأحداث والتي أصبحت مع قادم الأيام ذكريات يستمتع في قصها وسردها للآخرين».

الدكتور "إسماعيل" ابن السيد "يونس" يقول عن والده: «مايزال والدي يحافظ على ذاكرة العمل، فقد أجبرنا أثناء تجديدنا للمنزل على أن نبقي له على مساحة صغيرة للزراعة، وهو يعمل فيها على مدار العام ، يحب الصلاة في المسجد، صحته جيدة عدا بعض المشاكل في السمع والبصر، ويمضي اغلب يومه إما في حديقته أو ملاعبا لأحفاده».

يذكر أن السيد "يونس سليمان غزلان" هو من مواليد مدينة "داعل" عام ألف وتسعمئة وأربعة عشر تزوج أربع مرات ولديه ستة أبناء وابنتان وخمسة وثلاثون حفيدا.