تجسد قصة "الزير" ابتكاراً مثالياً استطاع من خلاله أهالي "حوران" حفظ مؤونتهم، وإثبات مقدرتهم وحضورهم في التغلب على ظروف الحياة القاسية؛ إذ استطاعوا تشييد بناء يحفظون فيه مؤونتهم الشتوية على مدار العام بطرائق آمنة وجميلة.

ويذكر "يوسف المنجر" أستاذ القانون في حديثه مع مدونة وطن "eSyria" بتاريخ 13 كانون الثاني 2016، أن "الزير" كانت حافظة الطعام والمكان المناسب للحفاظ على "الدبس والسمن"، وقال: «يعد "الزير" ابتكاراً مثالياً استطاع من خلاله أهالي "حوران" حفظ مؤونتهم للأيام اللاحقة من السنة، فتجد "المعزب" يهبّ مسرعاً ما أن يحل الضيف عليه إلى إخراج مفتاح خزانة الغذاء "الزير"، التي يحتفظ فيها بأنواع عديدة من الطعام، مثل "دبس العنب والعسل والسمن"، ليقدمها مع خبز "الشراك" وكل ما تيسر، حيث كان الدبس والسمن بأنواعه الطعام الرئيس للكثيرين من أهالي "حوران"، ومثّل في ذلك الحين أمناً غذائياً للجميع، بل وبات رفيق درب الإنسان، وقد قيل عن الدبس والسمن سابقاً: "حلوى الغني، وطعام الفقير"، لذلك كان من الضروري إيجاد طريقة لحفظه كغيره من الأطعمة كي لا تفسد مهما طالت مدة الحفظ، ولعدم وصول الحشرات إليه، فكانت "الزير" حافظة الطعام والمكان المناسب للحفاظ على الدبس والسمن، ويكون مفتاحها بيد رب الأسرة فقط، وقد يخبر زوجته بمكانه إذا كانت امرأة مدبرة بعيدة عن الإسراف، أو (الوجيلة) وهي أكبر النساء المعمرات في المنزل وأكثرهن قوة بشخصيتها التي يهابها جميع من في المنزل».

كان الناس في المنطقة الغربية على ضفاف "وادي اليرموك" ومنطقة "اللجاة" بوجه عام يعتمدون الدبس والعسل والسمن كمصدر أول للغذاء، ولم توجد في السابق وسائل للتبريد أو أي شيء من شأنه حفظ تلك المؤونة؛ فكان من الطبيعي أن يسعى الإنسان إلى صنع مواد وأدوات تؤدي الغرض حتى يتمكن من حفظها لتبقى محافظة على جودتها طوال العام

واستعرض المسنّ "موسى القاسم" طريقة بناء "الزير"، حيث قال: «يصعب أن نجد بيتاً واحداً في منطقتنا يخلو من هذا البناء الصغير المتكفل بحفظ الدبس بأنواعه والعسل والزيت والسمن العربي، وكانت طريقتهم في بنائها رائعة وجميلة ومميزة، فكانت هي الحل الأمثل، وكانت جديرة بالاعتناء بسبب ما تؤديه من دور يقوم على حفظ المؤونة من كل الشوائب لأطول مدة ممكنة، ويعد الطين المادة الأساسية في البناء، أو بأحجار صغيرة تسمى (الحصو) ثم تطلى من الداخل بالتراب الأحمر لحفظ المؤونة من الضرر، وتسمى الغرفة الصغيرة التي تحويه (الزيرط)؛ حيث يقارب ارتفاعها المترين بعرض متر ونصف المتر، وحسب طول أفراد الأسرة ليستطيعوا إخراج المخزّن من الغرفة بسهولة، ولها باب صغير في مقدمتها، وفي الأغلب يكون في إحدى زوايا المنزل أو تحت الدرج، و"الزير" تدل على الغنى الذي كان ينعم به صاحب المنزل، ويتم صنعه بحرق وشواء التراب الأحمر بالنار ليصبح صلباً وقوياً وجاهزاً للاستخدام ومن ثم البناء به ليصبح قوياً كالصخر. ويحرص صاحب المنزل على أن يكون مكاناً جيداً وبارداً وجافاً».

غرفة "الزير"

تجسد "الزير" براعة مزارعي مناطق "حوران" في الفن المعماري، إذ استطاعوا تشييد بناء يحفظون فيه مؤنتهم الشتوية على مدار العام لمواسم عدة بطرائق آمنة، وتابع "القاسم": «من خلال وضعها في حافظة "الزير" التي تعد ابتكاراً متكاملاً من قبل أبناء المنطقة، فإن بعض الناس يرفعون بعض الأغراض التي لا يحتاجون إليها يومياً فوق سطحها، وإذا أرادوا ذلك الشيء صعدوا السلم لجلبه، حيث كان سطحها يستخدم كمستودع، وفي أحد الأيام حل عدد من الضيوف إلى منزل أحد الوجهاء فعمد إلى إعداد القهوة فما أن شبت النار حتى تفقد بهارات دلال القهوة، فلم يجد فيها البنّ، ولم يستطع الذهاب إلى أي مكان لجلب القهوة، فاحتار ماذا يصنع؛ هل يعتذر للضيوف حيث لن يصدقوه، بل سينعتونه بالبخل، أم يذهب في الوقت المتأخر ليحضرها، معرضاً نفسه للخطر، فدخل إلى غرفة زوجته متذمراً لا يعرف ماذا يعمل، فلما رأت ما حل به قالت له أصعد إلى سطح "الزير" وستجد ما تريد، فلما صعد وجد عدة "صرر" من القماش، فلما أنزلها وجد في واحدة منها كمية صغيرة من حب البنّ "القهوة" تكفي لطبخة من القهوة، فرح بما جرى بعد فك أزمته وذهب غمه وسأل زوجته عن سر وجودها، فقالت: كنت أضع جزءاً قليلاً من البن في قطعة قماش كلما أحضرت كمية من القهوة، فأرمي بها في أعلى سطح "الزير"، لعلنا نحتاج إليها في يوم من الأيام، وها هي الحاجة حضرت ووجدناها، حيث أنقذت الموقف، لكن خذ القليل منها واترك الباقي مكانه، وبعد رحيل الضيوف اذهب وأحضر لنا كمية كبيرة من القهوة، ودع "الصرر" للحالات الطارئة».

حافظة المؤونة هي واحدة من الأدوات القديمة التي تساعد على حفظ الدبس والسمن والعسل لمدة زمنية طويلة، وتابع "مروان العودة" أحد كبار السن في المدينة: «كان الناس في المنطقة الغربية على ضفاف "وادي اليرموك" ومنطقة "اللجاة" بوجه عام يعتمدون الدبس والعسل والسمن كمصدر أول للغذاء، ولم توجد في السابق وسائل للتبريد أو أي شيء من شأنه حفظ تلك المؤونة؛ فكان من الطبيعي أن يسعى الإنسان إلى صنع مواد وأدوات تؤدي الغرض حتى يتمكن من حفظها لتبقى محافظة على جودتها طوال العام».

خزان الغذاء