أنجبت مدينة "طفس" الكثير من القادة والمجاهدين وكان لها باستمرار الدور المحوري في تحقيق انتصارات الأمة، وذلك لموقعها المتميز على ضفاف وادي "اليرموك".

لم تقبل الضيم يوماً تعودت على الحرية والإباء وكان من أبرز الأبطال الذين أنجبتهم "طلال حريذين" المجاهد الذي لقن الأتراك دروساً في الاستبسال والمقاومة لن ينسوها عبر تاريخهم الطويل.

أهلاً "طلال أبا منصور" يا رعشاً/ من الضياء وراح الدمع ينبجـــــس/ كأنما الأرض ماجت أخضراً عطراً/ وضرعها الدر لا غور ولا حبس/ وأشقر النور قد جاب الذرى وسرى/ في مقلة الحب واجتاح المدى عرس/ يا طلة الخير في ساحي وفي وطني/ كما تفجر صبح ليله دمس

ولد "طلال" في "طفس" عام 1855 وأصبح أحد ضباط الأمير "فيصل"، وأوردت كتب: "أعمدة الحكمة السبعة، وصور مشرقة من نضال حوران، ومجلة العمران"، نفس الفقرة التي تتحدث عن استشهاد "طلال" ومفادها أن الجيش العربي قام بتخريب قسم من الخط الحديدي الحجازي، في أعقاب تفجر الثورة العربية الكبرى عام 1918، فأصبحت مدينة "درعا" معزولة عن العالم الخارجي، من جميع جهاتها وبدأت القوات البريطانية هجومها على فلسطين، وتمكنت القوات العربية من الوصول إلى "المزيريب"، فاتجه "طلال حريذين" مع فرسانه إلى مدينة إزرع التي تحتوي على مستودعات الحبوب، وتمكن من السيطرة عليها وأجبر الأتراك على مغادرتها، وكانت التحضيرات جارية للسيطرة على مدينة "درعا" والانطلاق منها باتجاه "دمشق".

فتقهقر الجيش الرابع بقيادة "جمال باشا" وتراجع من "درعا" باتجاه "المزيريب"، ومنها دخل "طفس" وضربها بالمدافع الثقيلة والرشاشات وأضرم النيران فيها، وقتل فيها أكثر من 500 شخص.

جاء على لسان "لورنس" ما يلي: "وما كدنا نطل على القرية حتى تأكدت لنا صحة ذلك من رؤية النيران والحرائق ومن سماع الطلقات النارية بين الفينة والأخرى، وما هي إلا لحظات حتى بدأت تتجه نحونا جماعات بائسة من الشيوخ والنساء والأطفال لتروي لنا الكثير عن فظائع المجتاحين الذين أحرقوا القرية وفتكوا بكل حي تمكنوا منه، ومن مكان عال شاهدنا العدو يتجمع خلف البيوت ويتجه نحو قرية "الشيخ مسكين" فما إن أصبح خارج القرية حتى فتحنا عليه نيران مدفعيتنا، وكان "طلال" ثائراً يرغي لما فعله أولئك الأوباش بأبناء قريته وبسرعة فائقة أمطرنا العدو وابلاً من الرصاص والقنابل وشتتنا شمله ثم ساد المكان جو من السكون الرهيب. تقدمنا بحذر في حين كان الدخان يتصاعد في القرية وبين الأعشاب وقعت أنظارنا على ما تقشعر له الأبدان هولاً: قتلى وجرحى من نساء ورجال وشيوخ وأطفال- خراب ودماء أهوال وفظائع.

أما "طلال" الذي رأت عيناه ما حل بأبناء بلدته فقد كان يئن كالنمر الجريح ويرفض أن يكلم أحداً منا. وبعد أن ألقى نظرة فيها كل الغضب والثورة والألم على الجوار كأنه يبحث عن المجرمين.. أسدل كوفيته وضغط على عنان فرسه فراحت تعدو به كالسهم المارق إلى السهل نحو العدو. انحدر "طلال" من قمة الجبل وتخطى قاعاً عميقاً، فذهلنا أمام هذا الجنون وكلنا صعقنا في أمكنتنا وهو مندفع كالسهم وجمد الكون من حولنا وصمتت الطبيعة فلم يعد يسمع غير وقع سنابك فرسه وتوقف إطلاق الرصاص من الجانبين، وراح الجميع ينظرون نحو "طلال" الذي ما كاد يقترب من العدو حتى صرخ صرخة الحرب "طلال..طلال". فتساقط عليه زخ من رصاص العدو مزق أحشاءه فخر صريعاً مع فرسه.

تابع "عوده أبو تايه" هذه المأساة حانقاً مزمجراً، ثم قال: «رحمة الله عليك، سيدفعون غالياً ثمن قتلك يا طلال». وهز اللجام وتقدم بتؤدة نحو العدو فيما دفعنا الفلاحين إلى تقطيع جناحي الأتراك.

استيقظ "أسد" القتال في نفس "عوده" حينئذٍِ فأصبح بحكم الواقع رئيسنا جميعا، وتمكن بمناورة بارعة أن يجر العدو إلى أرض رديئة ويقطع أوصاله إلى ثلاث قطع تولينا أمر تلك القطع الواحدة بعد الأخرى، وأفنيناها عن بكرة أبيها انتقاما لمذبحة "طفس" ولقتل "طلال" أحد قادتنا الشجعان.

وقد خلد الشاعر "عبد الكريم كيوان" الذكرى الرابعة والسبعين لاستشهاد البطل المجاهد "طلال حريذين" بقصيدة طويلة نقتطف منها الأبيات التالية:

«أهلاً "طلال أبا منصور" يا رعشاً/ من الضياء وراح الدمع ينبجـــــس/ كأنما الأرض ماجت أخضراً عطراً/ وضرعها الدر لا غور ولا حبس/ وأشقر النور قد جاب الذرى وسرى/ في مقلة الحب واجتاح المدى عرس/ يا طلة الخير في ساحي وفي وطني/ كما تفجر صبح ليله دمس».

واستشهد "طلال" ورحل إلى جوار ربه لكن ذكراه لم ترحل أبداً بقي في قلوبنا وأذهاننا وإنه لمن الفخر والاعتزاز لأبناء مدينة "طفس" الحاليين أن يقولوا إننا و"طلال" من بلدة واحدة.