استطاعت المرأة أن تنافس الرجال في الكثير من الأعمال التي كانت تقتصر عليهم فقط، وحققت حضوراً لافتاً في الريف من خلال قيامها بالأعمال المتنوعة، ومنها الفلاحة والبذار، ومن أهم صور العمل "اللقاطة" التي تعدّ أحد أهم أركان العمل الزراعي القديم.

مدونة وطن "eSyria" عادت إلى الماضي، وبحثت عن العادات والطقوس التي كانت ترافق عمل "اللقاطة" في قرى ريف "حوران"، والتقت الحاج "أحمد يوسف حميد الجاموس" الذي يبلغ عمره سبعين عاماً، وهو من بلدة "داعل"، بتاريخ 4 أيار 2016، حيث قال: «كانت "اللقاطة" لها دور مهم في حياة الريف والعمل الزراعي القديم، فهي امرأة متوسطة السنّ، تمشي وراء الحرّاث وتسقط من يدها الملأى بحبوب "العدس أو الجلْبانة أو الحمص أو الذرة"، وتنتظر حتى ينتهي "الحرّاث"؛ (الرجل الذي يقوم بالحراثة حتى نهاية الثلْم) عبر "الفدان"؛ وهو (زوج من البقر يقوم بجر العود المكون من سكة رومانية)، وتسقط الحبوب الموجودة في "البذارة"، وهو القطعة القماشية المربوطة على خصرها، وتعود لتمشي خلفه، وتسقط الحبوب من يدها حبتين أو ثلاث حبات كل 20سم، ليطمرها تراب الثلم، وكان بعض "اللقاطات" المعروفات بالفطنة يقمن مع كبار السن قبل البدء بالحراثة بفحص ملاءمة الأرض للحراثة؛ بأخذ حفنة من التربة وضغطها بين راحتي اليدين، فإذا كانت رطبة ومتماسكة كالعجينة تترك لبضعة أيام حتى تجف قليلاً، وإلا فمن الصعب حراثتها، لأن الطين سيتراكم على سكة المحراث، وتجرف أمامها كتلاً كبيرة من الطين، وفي ذلك تعب وإجهاد كبير "للقاطة والحراث"، ومن النساء اللواتي كنّ معروفات بهذه المهنة في بلدة "داعل": "رحمة قنبر، وشمخة الهويدي"».

أما ما يردده المزارع أو العامل على "الفدان" من غناء خلال عملية الفلاحة طالباً ود المرأة "اللقاطة": "حلت كل الحراثين... وعيني على فدانه يا ويلي ويلي على عمي... مقيته وأنا بثق البال والله لأكسرك يا عود... وأقابلك يا اللقاطة والله لاخذ عشيرتي... واغني له بالساحة والله لأكسرك يا عود... وأقابلك يا لقاطة"

وعن صفات "اللقاطة" وميزاتها يقول "موسى القاسم" أحد كبار السن في مدينة "درعا": «المرأة شاركت الرجال في مختلف الأمور المتعلقة بالحياة اليومية وتأمين متطلبات المعيشة، وكان لها فعالية وحضور واضح في مناطق "حوران" المتعددة، وبالعديد من صور العمل بالفلاحة والبذار، ومن أهم صور العمل "اللقاطة"، وهي امرأة تبذر الحبوب وراء المحراث تتمتع بصفات عديدة، منها: الصبر، والشجاعة، وتكون مقدامة لا تأبه بالصعاب، وتتمتع بالهدوء والحكمة، نذرت حياتها لبيتها وأسرتها، ويعدّ الصبر أحد أهم صفاتها لكونها بحاجة إلى وقت طويل في اليوم الواحد من خلال القيام بالبذار تحت أشعة الشمس، وصعوبة التنقل في الأرض خلال عملية الحراثة، حيث تكون الأرض قاسية وتنتشر الحجارة الصغيرة، وقطع التراب القاسية التي يطلق عليها بالعامية (الكدر)».

موسى القاسم

ويقول الحاج "محمود الأحمد" من سكان بلدة "غصم": «قبل ظهور المعدات الزراعية الحديثة، كانت وسائل الحراثة والزراعة في الماضي تعتمد كثيراً على الجهود الذاتية للمزارع، الذي يعد المحور الأساسي في العملية الزراعية، وعلى ما تيسر له من دواب تقوم بخدمة حقوله، فقد استخدم أبناء "حوران" الحيوانات في حراثة الأرض وزراعتها، كالثيران والخيول والبغال والحمير، التي كانت في ذلك الوقت الطاقة المحركة لمختلف الأدوات الزراعية، وكان للمرأة دور مكمل لهذه الأدوات الزراعية في بذار الأرض عند الفلاحة عبر "اللقاطة"، فهي امرأة متوسطة العمر خبيرة بهذه المهنة، وعلى يديها تخرج النساء اللواتي يمارسن هذه المهنة في المستقبل، وتكون ذات سمعة حسنة ومتمرسة بهذا العمل، وكان عليها الاعتماد الدائم في بذار الأرض خلال عملية الفلاحة».

ويتابع: «أما ما يردده المزارع أو العامل على "الفدان" من غناء خلال عملية الفلاحة طالباً ود المرأة "اللقاطة":

"اللقاطة" تبذر الارض

"حلت كل الحراثين... وعيني على فدانه

يا ويلي ويلي على عمي... مقيته وأنا بثق البال

خالد عويضة

والله لأكسرك يا عود... وأقابلك يا اللقاطة

والله لاخذ عشيرتي... واغني له بالساحة

والله لأكسرك يا عود... وأقابلك يا لقاطة"».

بينما قال "خالد عويضة" أحد المهتمين بالتراث الحوراني: «يبدأ الفلاح حراثة الأرض وبذرها خلال شهر تشرين الثاني من بداية الشهر إلى نهايته على أبعد تقدير، ولا يجوز التبكير أو التأخير عن هذا الموعد، ويتم ذلك في العادة بعد أول هطول مطري جيد، ويحرث الفلاح أرضه لإعدادها للزراعة، مستخدماً لذلك المحراث اليدوي، وهنا يأتي دور "اللقاطة" بعد أن يكون قبل يوم قد جهز البذار، واتفق مع "اللقاطة" التي تكون عادة من أفراد الأسرة لكون أفراد العائلة هم من يشاركونها بعملية البذار ومساعدتها، وتكون معها إحدى النساء لمرافقتها في بذار الأرض مع "الحراث"، ولا ينجح عمل "اللقاطة والحراث" إلا بوجود وتكاتف الآخر، يرددان معاً أغاني الفلاحة التراثية القديمة التي تشتهر بها منطقة "حوران"، ومنها:

"ياحراثين القطعة... اتحلُّوا ولا بياته

وسلميْ على بلدنا... يا غيمهْ يا فواتهْ

سلم على قريتنا... وانْ جيتهم يا بادي

قرنْ شوقي يا الاشقر... على النهد نوّاد

كل الحوارث حلتْ... وعيني على فدانهْ

شوقي ولدْ حمولهْ... ما هقوتي ينسانهْ"».