استطاع جيل الآباء المؤسسين في الفن التشكيلي السوري أن يحافظ على ارتباطه بالأرض التي خرج منها، وفياً لها ولترابها وتاريخها، والفنان "ألفريد حتمل" أضاف إلى هذا الارتباط أسلوبية مميزة تكاد اليوم تشكل تياراً فنياً مستقلاً.

ما بين ولادته عام 1934 في بلدة "خبب" بمحافظة "درعا"، ورحيله إثر مرض عضال رافقه طويلاً عام 1993، أقام الفنان "حتمل" أكثر من عشرين معرضاً فردياً، قدم خلالها رؤيته الفنية المشبعة للإنسان السوري وأرضه، التي تطورت مرحلة إثر أخرى، حتى قاربت النضج الكلي في آخر معارضه في "باريس"، إلا أن القدر عاجله فلم تكتمل التجربة، ليحمل الراية بعده فنانون آخرون يستلهمون من روح لوحاته أساليب جديدة، ورؤية للوحة تكاد ترقى إلى فكرة "الصناعة" في عالم ينحو إلى التخصص بكل شيء.

منذ العام 1978 بدأ الفنان يتعرض لموضوع الأرض والإنسان بمفهوم تعبيري ملحمي معاصر نابض بالواقعية والرمزية، ورغم تعدد الأعمال والأشكال والتكوينات عنده، إلا أن الموضوع المهم لديه ظل واحداً هو الريف والحياة الريفية والتعبير عنهما

تعددت المراحل التي مر بها الفنان في سيرته الفنية، لتنتهي بالانطباعية التعبيرية، ويتحدث الفنان التشكيلي السوري "عامر ديوب"، من كلية الفنون الجميلة بجامعة "دمشق"، لمدونة وطن “eSyria” بتاريخ 11 نيسان 2014، عن تجربة الفنان قائلاً: «أخذت مرحلة النضج أبعادها في بداية التسعينيات، كان الفنان قبلها قد مر بالواقعية النفاذة، ثم المرحلة الريفية -إن جاز التعبير- تميزت مرحلة النضج بقدرته على إدراك اللوحة بكامل شموليتها، وبساطته المتناهية في معالجة موضوعه الفني، فالأرض في لوحته تتوهج وتشع، وهي العنصر الأساسي في مساحة اللوحة، والناس يعملون في هذه الأرض، بدرجة إضاءة إضافية، ويكتمل اللون لديه عن طريق خلق جديد يتراءى للمتلقي في تحولهم إلى ظلال تستمد ضوءها من الأرض نفسها؛ كأن الفنان في هذه اللوحات قد حقق إجابته التي بحث عنها طويلاً في مراحله السابقة».

من لوحات الطبيعة لديه

في مرحلته الواقعية، وأهمها لوحاته الأولى التي قدمها في معرض الربيع عام 1960، وخاصة لوحات (الخريف)، و(نظرة صامتة)، ولوحة (منظر)، كما يذكر الناقد "طارق الشريف" في دراسة له في مجلة (الحياة التشكيلية): «نستطيع أن ندرك أنه كان يرسم الأشجار بانفعال واضح، وبضربات فرشاة عريضة، ويؤثر أن يحسسنا بأن المنظر الذي يرسمه ليس هادئاً، رغم الهدوء الظاهر، مما يكشف لنا أن النفسية الإنسانية أخذت شكلاً خاصاً، فالتعبير الإنساني عن الحالة يكون بحركات ضربات الفرشاة، وليس بغيرها، ودسامة اللون الموحد هي الأساس، ولوحته (نظرة صامتة) تعطي فكرة عن بداية رسم وجوه الأشخاص بالدقة الواقعية، مع إضافة مهمة، تكمن في أسلوب التعبير عن الأعماق، وهكذا يجعلنا نترك الفعل المباشر للموضوع، في سبيل البحث عن النفسية التي تقدم لنا مفهوماً جديداً لرسم وجه فتاة».

ويضيف الناقد "الشريف": «ما زلت أذكر لوحة (الحصاد) التي رسم فيها الفلاح والثور يكافحان معاً الأرض، ويتغلبان على كل عقبات الطبيعة القاسية، وكذلك كانت المفاجأة تلك، الروح الجديدة التي يعالج بها مواضيعه في ضربات الفرشاة السريعة، التي أصبحت أكثر دقة، وأقدر على التعبير عن الموضوع، والتي تلخص الجانب التعبيري الذي بدأ يتعاظم تأثيره فيه، كلما أوغل في رسم مواضيعه من الواقع الريفي، وهكذا لخص لنا موضوعه بضربات الفرشاة، ولم ينقل حرفياً مشاهده، وكذلك تطور من حيث الألوان، فلم يعد ينقل ألوان الريف، بل أصبح لها مضمونها المرتبط بالموضوع، وهكذا تكامل بحثه اللوني والشكلي».

امرأة من لوحاته

في ثاني انعطافة له، التفت الفنان إلى جدلية مهمة تركت لاحقاً أثرها في بقية ما قدم، هي جدلية (الإنسان ـ الأرض)، وفي هذه الثنائية الوجودية أكمل الفنان ما رأى أنه يستحق التوغل في ثناياه.

يقول الناقد "راتب الغوثاني" في مقال نقدي نشره في مجلة "العربي" الكويتية عنه: «منذ العام 1978 بدأ الفنان يتعرض لموضوع الأرض والإنسان بمفهوم تعبيري ملحمي معاصر نابض بالواقعية والرمزية، ورغم تعدد الأعمال والأشكال والتكوينات عنده، إلا أن الموضوع المهم لديه ظل واحداً هو الريف والحياة الريفية والتعبير عنهما».

من أعماله أيضاً

وعن معرضه لعام 1978، قـال الناقد "طارق الشريف": "ضم معرض الفنان "ألفريد حتمل" مجموعة من الأعمال الفنية التي تعالج مـوضوعات تكاد تكون واحدة، رغم تعدد طرق المعالجة وهذا الموضوع الواحد يرتبط بالريف والحياة الريفية اليومية ومعاناة الإنسان في هذا الريف وآلامه. وتتجلى هذه المعاناة في معالجات "حتمل" الفنية من خلال الحركات والوجوه، وتحس بأنها شاملة لأن كل ما يرسمه، يضعه ضمن حركة من الخطوط التي تجعل الإنسان يعيش المأسـاة التي تنبعث من الأرض، والتي تجعل عمل الإنسان وجهده المضني مؤلماً غاية الإيلام في ظروف الاستغلال والظلم والقهر".

من النادر أن ترى لوحة له خالية من اللون الأصفر ومشتقاته من الألوان الترابية والبرتقالية الحارة، فقد كان شغوفاً بهذه الألوان الحارة، وكأنه يختزنها من قمح سهول قريته (خبب) مسقط رأسه، فيتحول الإنسان في لوحته إلى جزء من الأرض، تماماً كالصخور والأشجار والنباتات، دون أن ينسى البناء الهندسي في ربط عناصر لوحته مع بعضها بعضاً، خالقاً أشكالاً جديدة، لها طابعها المتين، البعيد عن العفوية كما يلاحظ للوهلة الأولى، سواء في طرح الأشخاص، أم بالتعبير عنهم في معالجته للمواضيع المتعلقة بملحمة الإنسان ـ الأرض.

في بداية التسعينيات استوت تجربة الفنان "حتمل" على نضج حقيقي لفنان مؤسس، ورائد ومعلم وباحث، فأخذت هذه التجربة تتوق إلى تأصيل معالم جديدة، ومن أبرز خصائص تجربته في التسعينيات استمراره في البساطة اللونية والخطية والشكلية، واستمرار السعي إلى خلق الرموز من مدركات طبيعية محيطة، وتحميلها الأفكار والرؤى عن الحياة والمجتمع والعمل والخلجات الإنسانية، فقبل رحيله رسم الفنان مجموعة هائلة من اللوحات بلون واحد، وبدرجات متفاوتة رأى فيها وحدة عضوية وروحية شاملة تنبعث من عنصر واحد هو الكون.

الفنان "ألفريد حتمل"، من الآباء المؤسسين في الفن التشكيلي السوري، درس الفن دراسة ذاتية، درّس الرسم في المدارس الثانوية وفي مركز "أدهم إسماعيل" للفنون في "دمشق"، تتلمذ على يد الفنانين "ناظم الجعفري"، و"أدهم إسماعيل"، ساهم في المعرض السنوي المتجول 1965، واشترك في معرض "بينالي" الإسكندرية، ومعرض "الربيع" في "بيروت"، وأقام معارض في "روما"، وفي المركز الثقافي السوري في "باريس" عام 1993، شارك في معرض في "جنوب إفريقية" ونال جائزة أفضل لوحة، أعماله موجودة في متحفي "دمشق" و"حلب"، ومؤسسات الدولة، ومؤسسات أجنبية في "باريس"، وفي غيرها. ‏

المصادر:

[1] مجلة الحياة التشكيلية، العدد 49ـ50، وزارة الثقافة السورية.

[2] مجلة العربي الكويتية، العدد 444 -1995/11 - فنون - راتب الغوثاني.