لعل طحن القمح الذي اعتمد المدقة والجرن الحجري، مروراً بالرحى، لم يعد يفي بالغرض، فابتكرت الطاحونة البدائية وهي عبارة عن حجرين منحوتين على شكل دائرتين، من الحجارة البازلتية مثقوبة من وسطها، والابتكار الأهم تدوير تلك الرحى بقوة الماء.

مدونة وطن eSyria، زارت بتاريخ 10/10/2013 مطحنة "العوجة" الواقعة في وادي بحيران في منطقة جبل الشيخ الذي يمر منه نهر الأعوج، وسلطت الضوء على هذا النوع من المطاحن، والذي كان ينتشر في معظم المناطق السورية، ووثقتها بالصور، والتقت الباحث التاريخي "مرعي كحل" وهو من قرية "قلعة جندل" التي كان سكانها يرتادون المطحنة لتأمين الطحين والبرغل، قال: «عمر هذه المطحنة يقدر بنحو 120 عاماً، وهي عبارة عن بناء واسع ومرتفع الجدران يتألف من بهو واحد يحوي حجري الرحى ومكاناً مخصصاً لحفظ أكياس الحبوب والدقيق، أما الطابق السفلي من المطحنة فيحوي الفراشين وتوابعهما، والماء ينطلق بعد الفراش من خلال فتحتين على شكل قنطرتين، ارتفاع كل منهما حوالي المتر والنصف ليستمر جريان الماء في الجدول بعد المطحنة، وكان النهر الذي يتم الاعتماد عليه لتدويرها يتفرع قبل الوصول إلى المطحنة إلى فرعين، يصبان في بئري المطحنة ليديرا أحجارها، ويغلق أحدهما عند إيقاف حجر واحد أو عند الحاجة لرواية المزروعات».

إن سبب بناء المطحنة في ذلك المكان هو مرور فرع من نهر الأعوج من الجهة الشمالية لإرواء بعض المساحات من الوادي، وكانت مياه ذلك الفرع قوية جداً ووفيرة وتكفي لتدوير حجر المطحنة

وأضاف: «تعتبر صناعة طحن الحبوب من أقدم الصناعات الغذائية في العالم، وقد استخدم الإنسان وسائل عدة لهرس الحبوب بأنواعها أو طحنها، ومنها هذه الوسيلة، وبناء المطاحن كان اختصاصاً عربياً، حققه العرب أنفسهم، ومنحوا غيرهم من الشعوب كل أنواع المطاحن المائية والهوائية، وقد كانت في المنطقة مطحنة أخرى تسمى مطحنة "الخربة" في أول وادي "بحيران" تشبه في عملها مطحنة "العوجة"، ولم يبق منها إلا بقايا البناء، وهذه المطاحن عرفت منذ القديم».

الباحث التاريخي مرعي كحل

والتقت المدونة السيد "شبلي قاسم صقر" حفيد المالك الأخير للمطحنة وهو المرحوم "مزيد صقر" الذي كان قد اشتراها بدوره من المرحوم "يوسف أحمد صقر"، فتحدّث عن سبب بناء المطحنة قائلاً: «إن سبب بناء المطحنة في ذلك المكان هو مرور فرع من نهر الأعوج من الجهة الشمالية لإرواء بعض المساحات من الوادي، وكانت مياه ذلك الفرع قوية جداً ووفيرة وتكفي لتدوير حجر المطحنة».

وقدم صقر شرحاً مفصلاً عن آلية عمل المطحنة بدءاً من «جريان الماء على سطحها في فرعين متجاورين لمسافة عشرين متراً، ودخوله إلى ما يسمى بئر المطحنة "الشاغور" والذي يرتفع نحو أربعة أمتار، حيث يصل الماء إلى عمق هذا البئر، وهناك يوجد فجوة كبيرة تمتلئ بالماء المتساقط بقوة من الأعلى، لينطلق الماء بقوة من فجوة ضيقة منحدرة تدعى "الغالول"، فيصطدم بشفرات دولاب معدني مائلة يسمونه "الفراش"، المثبت على محور خشبي بشكل قائم يدعى "العروس" من النصف السفلي، و"السيف" من النصف العلوي».

شواغير لدخول المياه

صقر أضاف «أن هذا المحور يرتكز تحت الفراش على قطعة خشبية أفقية طويلة تدعى "النائمة" تقع في حفرة صغيرة تدعى "الصوص"، وأعلى المحور السيف، ينفذ من أرضية الطاحونة ويمر من فتحة مركز حجر الرحى السفلي والذي يبلغ قطره حوالي المتر والنصف، ويعلوه حجر الرحى العلوي المتحرك والذي يماثله

في الشكل والحجم، والسيف يحكم شده إلى الحجر العلوي بقطعتي خشب متصالبتين تدعيان "الفاس"، وتلك المطحنة تتشابه بآلية عملها وتصميمها مع معظم المطاحن التي تدور بقوة الماء».

ما بقي من آثارها

وتابع صقر: «عندما يسمح للماء بالسقوط في البئر يندفع هذا الماء من المغارة عبر فتحة "الغالول" بقوة فيصطدم بشفرات "الفراش" الذي يدور وينقل الحركة بدوره عبر المحور الذي يربطه بحجر الرحى العلوي فيدور حجر الرحى، ويوجد فوق حجر الرحى صندوق خشبي على شكل قمع مثبت بحبال إلى سقف المطحنة على شكل أرجوحة قابلة للاهتزاز في أسفلها ثقب يمكن التحكم به ويسمح للحبوب بالسقوط منه في فتحة مركز حجر الرحى، وهذا القمع تثبت عليه قطعة من الخشب تلامس في طرفها السفلي السطح العلوي لحجر الرحى بحيث إذا دار الحجر تهتز قطعة الخشب هذه فتهز بدورها القمع المملوء بالحبوب ما يساعد على إسقاط هذه الحبوب من فتحته إلى مركز فتحة الرحى والتي تنهرس بين الحجرين ويتناثر الطحين من أطراف حجري الرحى ويجمع في حفرة قريبة تدعى "الجهير"».

الشيخ علي "يوسف عماد" الذي يبلغ من العمر ثمانين عاماً كان يرافق والده إلى المطحنة، ويذكر شيئاً عنها حيث قال: «إن المتابع لآلية عمل المطحنة يلاحظ الدقة في التصميم والإبداع لمثل هذه المنشآت، حيث تحتاج إلى شخص مدرب وخبير للإشراف عليها والقيام بعملية الطحن، وهذا العامل أو المشرف يقوم برفع حجر الرحى العلوي قليلاً وخفضه بعد الضغط على عمود من الخشب ينفذ من أرضية المطحنة، ويدعى "الرجل" ويتصل بأسفله بمفصل يدعى "القطريب" بخشبة تدعى "النائمة"، والتي هي عبارة عن عتلة ترتكز في وسطها على محور مثبت في الأرض، وبعملية الضغط على "الرجل" يرتفع نصف "النائمة" الذي يرتكز عليه "الفراش" قليلاً، ما يرفع بدوره حجر الرحى العلوي، وعندما يتم سحب "الرجل" إلى الأعلى ينخفض الفراش ثم حجر الرحى العلوي، وبرفع حجر الرحى العلوي وإنزاله يمكن التحكم بنعومة البرغل أو العدس المجروش أو الطحين».

بدوره الشيخ "مزيد سليم الكريدي" البالغ من العمر واحد وثمانين عاماً قال أيضاً إنه كان يتردد إلى المطحنة في الصغر، موضحاً أنه «قام بتشييدها المرحوم "علي الكريدي" ونقل حجارتها من قرية "محجة" في محافظة درعا على ظهور الجمال إلى مكان قريب من بنائها، ثم نُقلت هذه الحجارة على الأكتاف إلى المكان الذي شيدت فيه، والمطحنة كانت مقصداً للقرى المجاورة لقرية "بقعسم"، وهي قرى "قلعة جندل وبيتيما وكفرحور وريمة وعرنة وعين الشعرة" وغيرها من الجوار، وعملت لفترة زمنية طويلة، لكن المطحنة توقفت عن العمل بعد أن قلّت المياه وازدادت المساحات المروية وأصبحت الحاجة ماسة لروايتها، في وقت بدأت فيه المطاحن الآلية تأخذ طريقها إلى العمل، ومن ثم الاستغناء عن المطاحن التي تدور بقوة الماء».

بقي أن نقول إن تلك الابتكارات التي سهلت على الإنسان في سالف الزمن مهمات الحياة ومتطلباتها، بقي منها ما يذكرنا بعظمة الأجداد وتاريخهم وآليات عملهم، فليتنا نحافظ على آثارهم هذه من الاندثار ونبقيها شاهداً على عصر مضى بعلومه وأمجاده.