تعتبر" البيمارستانات" "المصحات" أو "المستشفيات" من مفاخر مدينة "دمشق" لكونها احتضنت أول "بيمارستان" في بلاد الشام، لتشكل ظاهرة حضارية وإنسانية وعلمية بآن معاً.

تتفق الروايات على أن أول من بنى "البيمارستان" في بلاد الشام "الوليد بن عبد الملك" الخليفة الأموي سنة (88هـ - 706م)، وتختلف الآراء حول البيمارستان الأقدم والأكثر شهرة، فبينما يذهب البعض إلى اعتبار البيمارستان النوري أقدمها يذهب "ابن العماد" إلى القول في "شذرات الذهب": المارستان الصغير بدمشق أقدم من المارستان النوري وكان مكانه في قبلة مطهرة الجامع الأموي وأول من عمره بيتاً وخرب رسوم المارستان منه أبو الفضل الإخناوي، ثم ملكه بعده أخوه البرهان الإخناوي وهو تحت المئذنة الغربية بالجامع الأموي من جهة الغرب وينسب إلى أنه عمارة معاوية أو ابنه".

كانت البيمارستانات مقسمة معمارياً حسب خطة مسبقة، وامتازت آنذاك بالبناء المعماري الهندسي الدقيق والمساحات الواسعة الفسيحة

أما البيمارستان النوري وحسبما يذكر الدكتور "عمار عبد الرحمن" في كتابه "العمارة الإسلامية في دمشق" فبناه السلطان نور الدين محمود بن زنكي دمشق سنة 549هـ 1154م.

الدكتور بشير زهدي

ويذكر "ابن جبير" الذي دخل دمشق سنة 580 مارستانين فقط ويوصف كل منهما بالقول: «بها مارستان قديم وحديث والحديث أحفلهما وأكبرهما وجرايته في اليوم نحو الخمسة عشر ديناراً وله قومة وبأيديهم الأزمة المحتوية على أسماء المرضى وعلى النفقات التي يحتاجون إليها في الأدوية والأغذية وغير ذلك حسبما يليق بكل إنسان منهم، والأطباء يبكرون إليه في كل يوم، ويتفقدون المرضى ويأمرون بإعداد ما يصلحهم من الأدوية والأغذية. والمارستان الآخر على هذا الرسم لكن الاحتفال في الجديد أكثر وهذا المارستان القديم هو غربي الجامع المكرم. وللمجانين المعتقلين أيضاً ضرب من العلاج وهم في سلاسل موثوقون. وهذه المارستانات مفخر عظيم من مفاخر الإسلام».

في هذا المكان تلقى المرضى علاجهم على أتم وجه حيث يذكر المؤرخ "المقريزي": «إن الوليد بن عبد الملك جعل في البيمارستان الأطباء وأجرى الأرزاق على المرضى، وخصص مكاناً للمجذومين، وأمر بعدم إخراجهم منه كيلا تنتقل العدوى، وقدم لهم كافة الاحتياجات من مأكل وملبس ومصروف، وجعل لكل عاجز خادماً يخدمه، ولكل أعمى قائداً يقوده أينما أراد، وأجرى الأرزاق عليهم جميعاً».

كما يذكر الدكتور الباحث بشير زهدي أستاذ علم الجمال في كلية الفنون الجميلة أنّ الاهتمام ببناء البيمارستانات كان كبيراً فقد «زود البيمارستان بمكتبة تلقى فيها دروس الطب كطب العيون وطب الأمراض الجلدية وغيرها من الاختصاصات كما ضم الصيادلة والفنيين وغيرهم من الموظفين مثل المعالجين، الخزنة، البوابين، الوكلاء، النواطير إضافة إلى الطباخين ومساعديهم، أما من الناحية المادية فقد وصل راتب الطبيب في المارستان إلى /600/ دينار، وكانت تكاليف المرضى تضم الأغطية، ثمن الفحم في الشتاء، الأكل والشراب فيه، كما كان ينفق على هذه البيمارستانات من أموال الوقف، ليس هذا فحسب بل كان الأطباء يزورون المرضى المسجونين ويعطونهم الدواء المناسب، حيث كانت النساء تستقبلن في السجون كممرضات، وتطورت الخدمات أكثر فأكثر وتشكلت بعثات صحية تحمل صناديق وخزانات الأدوية إلى القرى والأرياف البعيدة، حيث يعتبر حق المعالجة ودخول البيمارستان لكل مواطن».

ويؤكد "زهدي" الحالة الإنسانية والأخلاقية للبيمارستانات فيقول: «إنسانية لكونها استوعبت كل الناس الفقير والغني والمعالجة، والنفقات مجانية، وأخلاقية لأنها كانت تحافظ على إنسانية الإنسان دون أن تشعره بأن أحداً يتفضل عليه، أو أنه مدين بالفضل لغيره».

باحة البيمارستان النوري

لم تكن البيمارستانات مراكز للعلاج فقط بل مستشفيات تعليمية أيضاً، يقول الدكتور "عبد القادر ريحاوي" أحد الباحثين والمهتمين في مجال التاريخ والتراث الدمشقي: «كانت البيمارستانات بمثابة مستشفيات تعليمية، يتعلم فيها طلاب الطب وكل ما يتعلق بمجال عملهم، فبعد جولة الطبيب مع طلابه على المرضى، كان يتجه إلى إيوان خاص مزوّد بكل الآلات والكتب ثم يلقي عليهم دروسه أو يناقش معهم بعض الحالات التي وقفوا عليها ويزودهم بالمعلومات والحالات الجديدة التي سيتعرضون لها في المستقبل بعد تخرجهم في البيمارستان أو بعد الفترة التعليمية.

كما كانت ظاهرة حضارية ومعمارية، اعترف بها المؤرخون الغربيون، يقول مؤرخ تاريخ الطب والعلوم "نوربيرجير": إن تنظيم البيمارستانات هو أحد المستحدثات الجميلة للثقافة العربية».

حيث امتازت البيمارستانات بالبناء الهندسي الدقيق ، يضيف الدكتور "ريحاوي": «كانت البيمارستانات مقسمة معمارياً حسب خطة مسبقة، وامتازت آنذاك بالبناء المعماري الهندسي الدقيق والمساحات الواسعة الفسيحة».

ويشير الدكتور "عمار عبد الرحمن" إلى أن «البيمارستان النوري بني في العصر العباسي العهد السلجوقي وأن أهم ما يميز عمائر هذه الحقبة احتواؤها أواوين ذات عقد حجرية واسعة مفتوحة على باحة البناء بجهاتها الأربع أو ثلاث منها، مع وجود بركة ماء وسط الباحة، كما أصبحت القباب محمولة على حنايا ركنية في زوايا الغرف».

والبيمارستانات مستحدثة انطلقت من دمشق إلى العالم بفضل أطباء عملوا فيها، يقول الدكتور "زهدي": «تمت الاستفادة من إمكانيات أطباء البيمارستانات وكيفية إدارتهم لهذه المؤسسات الصحية، حيث تذكر كتب الرحالة أن الوزير العباسي علي بن عيسى الجراح أمر ببناء مشفى في سنة /302 هـ/ وأعطى رئاسته إلى أبي سعيد بن يعقوب الدمشقي، وبفضله بني في بغداد خمسة بيمارستانات».

في العصر الحديث قامت المديرية العامة للآثار والمتاحف بترميم البيمارستانات وتجهيز بعضها كالبيمارستان النوري الذي أصبح مقراً لمتحف الطب والعلوم عند العرب عام 1978 نظراً لمكانة هذا البناء العربي الفريد وللدور الذي لعبه في تطور العلوم الطبية والصيدلانية ويضم المتحف أربع قاعات الأولى للعلوم والثانية للطب والثالثة للصيدلة والرابعة للطيور والحيوانات المحنطة.