«تعتبر منطقة دمشق من أهم مناطق الاكتشافات الأثرية التي أظهرت ما تكتنزه الأرض في باطنها من ثروات، فظهرت فيها أقدم تجمعات الصيادين وقرى المزارعين الأوائل حتى أسماها "فيليب حتي" ميناء الصحراء الذي لابد للقوافل من أن تدخله، وترقى المكتشفات الأثرية إلى الألف العاشرة قبل الميلاد لنستدل من خلالها على الطبيعة الاجتماعية والسكانية للمنطقة في تلك العصور».

هذا ما تحدث به الأستاذ "محمود حمود" مدير دائرة آثار ريف دمشق عن الطبيعة التي جعلت من دمشق إحدى عواصم الشرق القديم في مقدمة حديثه عن شعائر الدفن وطقوسه في دمشق والجنوب السوري منذ العصور الحجرية وحتى "الآرامية" فقال: «خلال فترات امتدت منذ العصر الحجري الحديث الواقع بين عامي /10000/ وحتى /6000/ قبل الميلاد، والعصر الحجري النحاسي الذي يمتد بين عامي /6000-3200/ قبل الميلاد وانتهاءً بالعصور التاريخية من البرونز القديم والبرونز الوسيط والبرونز الحديث وصولاً إلى عصر الحديد الذي ينتهي بتاريخ /333/ قبل الميلاد عاشت المجتمعات البشرية في مدينة "دمشق" وظهرت حديثاً دلالات العيش في هذه الفترة، و ظهرت عادات الدفن وشعائره لتشكل بمجملها نسيجاً اجتماعياً وتراثا كشف الستار عن حقبة تاريخية كانت في عداد المبهمة».

المصدر الأساسي الذي يروي حكايات المدافن هو التنقيبات الجارية في مواقع مختلفة من الجنوب السوري ومدينة "دمشق" في كل من "تل أسود" و"تل الرماد" و"تل البحارية" و"موقع قراصة" و"زاكية" و"حينة" و"يبرود" و"غوطة دمشق" وغيرها من المواقع المختلفة بالإضافة لخلاصة بعض المجلات المتخصصة كالحوليات الأثرية وبإشراف المتخصصين في المديرية العامة للآثار والمتاحف وأساتذة الآثار بجامعة "دمشق"

وعن تقاليد وطقوس الدفن في العصور القديمة أضاف "حمود": «يمكن تصنيف المدافن في منطقة البحث خلال عصور ما قبل التاريخ إلى عدة أنواع فمنها بسيطة محفورة في الأرض كانت تقام غالباً تحت أرضيات البيوت، وتتميز بأنها قبور مفردة وجماعية تم في الكثير منها تحنيط بدائي تمثل في قولبة الجمجمة بمادة كلسية ودهنها بالمغرة الحمراء، ومنها مدافن "دولمينية" و"ميغاليتية" (محاطة بأبنية دائرية) بنيت من الحجارة البازلتية غير المشذبة، ومنها ذات أشكال أخرى مثل الجرار الفخارية، وسادت خلال فترة عصور ما قبل التاريخ طقوس تتمثل في عبادة الأسلاف وعبادة الحيوان والطير، وقد تميز موقع "البحارية" بممارسة طقس حرق الأموات حيث وجدت جرة تحتوي على رماد عظام طفل».

الاستاذ محمود حمود

أما عن الدفن في العصور التاريخية فقال "حمود": «تختلف أشكال المدافن في هذه الفترة فمنها القبور البسيطة نفذت بعدة تقنيات كالحفر في التربة وبناء القبور في الحجارة خاصةً في الترب اللحقية في مواقع مثل "اللجاة" و"هيجانة"، ومنها مدافن بسيطة حفرت على شكل قبو أو بئر أرضي وهي مدافن جماعية تعد مدافن "حينة" أفضل نماذجها، ومدافن ذات أبنية حجرية معقدة للدفن الجماعي مثل مدافن "نبع الصخر"، ومدافن مبنية من الحجر بسقف منحنٍ يستند على دعامة حجرية مركزية كمدافن "عين النورية" في "القنيطرة"، ولاتختلف طقوس وتقاليد الدفن في هذه الفترة بل تعد امتداداً للعصور القديمة فيلاحظ تعدد حالات وضع الجثث على شكل الجنين "وضعية القرفصاء" مما يؤكد استعمال الدفن الثانوي ليحوي المدفن أكثر من جثة، أما الأثاث الجنائزي فظهر في العصر "النطوفي" في المنطقة، وحين انتشرت صناعة الفخار وأصبح الأثاث الجنائزي عادةً ترتبط بشعوب عصر البرونز الوسيط ولا تبتعد عن التقاليد الكنعانية والآرامية، ومن أهم مواد الأثاث الجنائزي: الأواني الفخارية والأدوات البرونزية من حراب وخناجر وسهام وأطواق وأساور، وحلي مختلفة من الأحجار الكريمة ومثيلاتها خاصةً العقيق، وعظام الحيوانات التي ترمز لحاجة الميت إلى الحياة الأبدية».

وعن مصادر المعلومات عن طقوس الدفن وشعائره قال "حمود": «المصدر الأساسي الذي يروي حكايات المدافن هو التنقيبات الجارية في مواقع مختلفة من الجنوب السوري ومدينة "دمشق" في كل من "تل أسود" و"تل الرماد" و"تل البحارية" و"موقع قراصة" و"زاكية" و"حينة" و"يبرود" و"غوطة دمشق" وغيرها من المواقع المختلفة بالإضافة لخلاصة بعض المجلات المتخصصة كالحوليات الأثرية وبإشراف المتخصصين في المديرية العامة للآثار والمتاحف وأساتذة الآثار بجامعة "دمشق"».

د. عمار عبد الرحمن

وتحدث الدكتور "عمار عبد الرحمن" مدير مركز الباسل للدراسات والتدريب الأثري عن أهم المدافن المكتشفة في منطقة "دمشق" والجنوب السوري وأهم العلوم الأثرية المعتمدة عليها فقال: «تدل مخلفات الانسان القديم المكتشفة في "يبرود" على أنها أحد أهم مواطن الإنسان القديم نظراً لغناها بمقومات الحياة بوجود الكثير الأدوات الحجرية في المغاور والملاجئ الصخرية، ويرقى أقدم أنواعها للعصر الحجري القديم أي حوالي 250 ألف سنة خلت، كما أنها المرشد في علوم نشوء المدن وتطورها الاجتماعي والاقتصادي، فتدل المدافن الأثرية المكتشفة على نشوء القرى في العصر الحجري الحديث "النيوليت" في "تل المريبط" و"تل أسود"، ثم أتت العصور التاريخية بدءاً من البرونز والحديد وصولاً إلى الكلاسيكية وترافقت بالأثاث الجنائزي الذي يظهر مكانة المنطقة في تلك الفترة.

وأشار الدكتور "سلطان محيسن" أستاذ الآثار بجامعة "دمشق" لأهمية المعلومات التي تقدمها طقوس الدفن فقال: « يعتبر موضوع الدفن والتركيز على أشكال القبور ووضعية الموتى والتوابيت وما رافقها من أثاث جنائزي ومقتنيات وأضاحي وغير ذلك من المظاهر ذات الدلالات الروحية والفكرية، وأثبت أن دراسة طقوس الدفن هي الوسيلة الأفضل لفهم الحضارات القديمة بمختلف جوانبها لأن القبور وما تحويه مؤشر صادق على التطور البيولوجي والتاريخي لأسلافنا القدماء وعلاقتهم بالشعوب الأخرى على مساحة امتدت من "بلاد الرافدين" إلى "الأناضول" وحتى "وادي النيل" رغم أن "دمشق" حافظت على خصوصيتها من خلال المكتشفات الأثرية الأخيرة».

من الأثاث الجنائزي

  • كتاب "شعائر الدفن وطقوسه القديمة في دمشق والجنوب السوري" هو أحد الكتب الصادرة عن مركز الباسل للدراسات والتدريب الأثري وهو سلسلة من كتب الباحث "محمود حمود".