في سنة (676 هـ) أمَر الملك" السعيد أبو المعالي ناصر الدين محمد بركة خان ابن الملك الظاهر بيبرس" ببناء مدرسة "الظاهرية" لتكون مدرسةً للشافعية والحنفية وداراً للحديث، وتُربةً لوالدهِ، فابتاع دار "أحمد بن الحسين العقيقي"، وكانت قصراً للأيوبيين يقعُ من "دمشق" في حيِّ العمارة بين بابَي الفرَج والفراديس؛ تجاه المدرسة العادلية؛ بينهما طريقُ "باب البريد" المُفضي إلى "الجامع الأموي".

ولعلَّهُ توخَّى من ذلك أن يجعل هذين الصَّرحين المتقابلَين مُنسجمَين كلَّ الانسجام كوحدة عمرانية يكمل جمال الأول روعةَ الثاني، وقد أفلَح في مسعاه فالمدرستان نهضَتا مَناراً للثقافة العربية والإسلامية، وربضَتا وجهاً لوجه بروعةٍ وجلال تروعان كلَّ ناظِر.

وظلَّت الظاهرية مثابةً للعلم وطُلاَّبه؛ تؤدِّي رسالتها العلمية والثقافية وظلَّ ينبوعها الفيَّاض على رُوّادها بالعلم والعطاء والمعرفة، ورفَدَت مكتبةَ الأسد الوطنية - حين تأسَّست - بجميع مخطوطاتها، وبالكثير الجمِّ من عيون كتُبها ودورياتها، فنقصت خزائنها، وشحَّت مواردُها

نحاول من خلال لقاء مدير مكتبة "الظاهرية" السيد "سامر اليماني" إلقاء الضوء على هذا المعلم الحضاري، وإلى أين وصلت عمليات الترميم الخارجي والداخلي؟؟

"سامر اليماني" مدير المكتبة الظاهرية

عَمَارتها وافتتاحها:

يقول السيد "اليماني": «بدأت عَمارة الظاهرية يوم الأربعاء خامس جمادى الأولى سنة (676 هـ)، واستمرَّ العملُ في بنائها حتى يوم الأربعاء الثالث عشر من صفر سنة (677 هـ) ،افتُتِحت قبل إتمام بنائها وبُدِئ التدريس فيها، حيث ألقى الدَّرسَ الأول في الإيوان الشرقي الشيخ "رشيد الفارقي" مُدرِّس الشافعيّة، فيما ألقى مُدرِّس الحنفية القاضي "صدر الدين سليمان ابن أبي العز" في الإيوان القبلي الدرس الأول أيضا».

موارد الظاهرية:

لكن من أين تأتي موارد التمويل؟ يجيب السيد "اليماني": «كان للمدرسة أوقافٌ كثيرة من القُرى والبساتين والعقارات التي مَكَّنَ رَيعُها الوفير من تمويلِها وتأمين احتياجاتها، وحاجاتِ القائمين عليها، وطلبةِ العِلْم المُقيمين فيها، الذين كَفَتهُم مؤونةَ العَيش، لِتستمرّ ردْحاً من الزمن مَثابةً للعِلْمِ وطُلاَّبه، وتتمكَّن - بسبب رَيْعِ هذه الأوقاف - من تقديم صُنوف العِلْم والمعرفة لبضعة قرونٍ امتدَّت من أواخر القرن السابع إلى أواخر القرن الثالث عشر من الهجرة».

"محمد الطويل" أمين مكتبة الظاهرية

الظاهرية دار كُتُب:

كيف إذن تحولت المدرسة إلى مكتبة؟

في أواخر القرن الثالث عشر للهجرة- يقول مدير مكتبة "الظاهرية"-: «تضاءل شأنُ المدرسة الظاهرية - بعدَ عِزٍّ وبُعْدِ صِيت- بسبب ضياع أوقافها ونقْصِ مَوارِدها، وساء حالها، وبخاصةٍ بعد أن أقامت الحكومة التركية فيها مدرسةً ابتدائية رسمية، وكادت تلفظ أنفاسَها لولا أن تدارَكَتها العنايةُ الإلهية بثُـلَّةٍ من العُلماء أعضاء (الجمعية الخيرية) التي ألَّفها الوالي العثماني "مدحت باشا" وأسنَدَ إليها أمْرَ العناية بالتعليم والمدارس في البلاد، إذ أشاروا عليه بجمْعِ كنوز المخطوطات الموقوفة على مدارسِ "دمشق" صَوْناً لها من الاختلاس والسرقة والضياع، فكَتَبَ بذلك إلى السلطان "عبد الحميد" وحصلَ منه على مرسومٍ في شباط سنة (1295م) بِجمْعِ المخطوطات في مكتبةٍ عامة يكون مَقرُّها في تربة الملك الظاهر الكائنة ضمن المدرسة "الظاهرية" لِمتانتها ولياقتها لتلك الغاية».

مرحلـة الجَمْـع:

وفعلاً - يتابع السيد "اليماني"-: «شمّر الشيخ "طاهر الجزائري" وصَحْبهُ عن ساعد الجِدِّ وانطلقوا إلى مكتبات "دمشق" يجمعون ما فيها، ولقي الشيخ "طاهر" وصحبه ما لقوا ممن استحلَّوا أكْل الكتب والأوقاف، وتحمَّلوا منهم مقاومةً شديدة حتى هدَّدوا الشيخ بالقتل إن لم يرجِع عن قصْدهِ فما زادوهُ إلا مَضاءً، وجمع وصحبه نفائس الكتُب المخطوطة والمطبوعة من تراثنا العربي والإسلامي من عشْرِ مكتبات أساسية ومما زُوِّدت به المكتبة من المؤسسات الرسمية، ومن العلماء الخيِّرين الغيورين. وأُحْصِيَت المخطوطات والكتب وصُنِّفت وفُهرِسَت، ووضِعَت في خزائن قُبـَّة الملك الظاهر حول الضَّريحَين، وتحوَّلت إلى مكتبةٍ عامة سُمِّيت بـ(المكتبة العمومية)، وفتَحَت أبوابها للمُطالِعين سنة (1881م)؛ وأينَعت في دوحتها ثمار العِلْم والمعرفة»

ويضيف السيد "اليماني" فيقول: «وظلَّت الظاهرية مثابةً للعلم وطُلاَّبه؛ تؤدِّي رسالتها العلمية والثقافية وظلَّ ينبوعها الفيَّاض على رُوّادها بالعلم والعطاء والمعرفة، ورفَدَت مكتبةَ الأسد الوطنية - حين تأسَّست - بجميع مخطوطاتها، وبالكثير الجمِّ من عيون كتُبها ودورياتها، فنقصت خزائنها، وشحَّت مواردُها».

رأي:

السيد "أحمد الابراهيم" طالب ماجستير تاريخ ( الدراسات الإسلامية) من رواد المكتبة "الظاهرية" قال: «عندما كنت طالباً جامعياً قبل سنوات، كنت أتردد إلى المكتبة الظاهرية بشكل منتظم من أجل إنجاز حلقات البحث التي أكلف بها، ووجدت فيها كل ما أبحث عنه آنذاك، أما الآن وبحكم البحث الذي أعمل عليه، وحاجتي للتدقيق والتحقيق في مخطوطات قديمة جداً، وهي غير متوفرة في كثير من الأحيان من جهة، وكون جميع المراجع والكتب المتبقية قد انتقلت من الظاهرية إلى العادلية بسبب الترميم في الأولى من جهة ثانية، فقد لجأت إلى مكتبة الأسد حيث تتوفر فيها كل المراجع التي تفيد بحثي مع السرعة في تأمينها، ولاسيما أن مكتبة الأسد تعتمد على الحاسوب في أرشفة وتصنيف المراجع بأنواعها، ولذلك أتمنى عندما تنتهي عمليات ترميم المكتبة وإعادة الكتب والمراجع إليها، أن تعتمد آلية جديدة في الأرشفة مع تأهيل الكوادر البشرية العاملة فيها، بما يؤدي إلى تحقيق مبدأ السرعة في تأمين طلبات الباحثين والدارسين من كتب ومراجع».

ترميم المكتبة الظاهرية:

في الآونة الأخيرة قُيِّض للمكتبة الظاهرية مَن يُحْيي عمارتها، إذ عرَضَت جمهورية كازاخستان - تقديم منحةً لإجراء أوسع وأدقِّ عملية ترميمٍ لمبنى الظاهرية، لإعادته إلى أصول عمارته التراثية الأولى. وبدأت أعمالُ التدعيم والترميم فيها في التاسع عشر من نيسان من عام (2007م)، والمرجو- حسب عقد الترميم المُبرم مع المقاول- أن تنتهي أعمال الترميم في أول حزيران من عام (2009م).

هذا وقد وضَعت إدارة المكتبة خطةً شاملةً لإحياء المكتبة الظاهرية، وتحقيق الغايات المأمولة منها على الوجْهِ الأمثل، والارتقاء بمديريّاتها ووسائلها وأجهزتها وأنظمة تصنيفِ وفهرسةِ كتُبها؛ بما يتلاءم مع رُقيِّ الطراز المعماري الرفيع الذي سيؤول إليه صَرْحُها بعد الفراغ من ترميمه، لخص الخطة مدير المكتبة بعدة نقاط منها:

  • إدخال جميع عناوين الكتُب التي لم تُدخَل بعدُ إلى الحاسوب مع تفاصيل نشْرِها، وتدقيق جميع العناوين المُدخَلة سابقاً، وبيان مدى مطابقتها للبيانات المدوَّنة في سجِّلات التزويد.

  • استلال الكتُب الأجنبية من مستودعات الكتب العربية، وإحالتها على مواضِعها وأرقامها في سجلات الكتب الأجنبية، وإيداعها مستودعات خاصة بها حسب اللغات المُصنَّفة فيها؛ تمهيداً لفَهرستها وتصنيفها وفق نظام ديوي العشري من اللجان المُختصَّة.

  • السَّعي الحثيث لتزويد المكتبة الظاهرية بما تفتقر إليه من الكتب والمراجع في مختلف فنون التراث العربي والإسلامي، وبالكتب الصادرة حديثاً في مختلف العلوم وبخاصة علوم العصر.

  • وهو أهمُّ وأَوْلَى ما يجب إنجازه قبل الفراغ من ترميم مبنى المكتبة - إعادة فهرسـة وتصنيف الكتب حسب نظام ديوي العشري المُعدَّل؛ لعدم ملائمة التصنيف القديم المعمول به فيها، وذلك بالتعاون والتنسيق مع مكتبة الأسد الوطنية ويحتاج هذا المشروع الضخم البالغ الأهمية لقرابة سنة كاملة إن حُشِدَ له العدد المناسب من المؤهَّلين أو من ذوي الاختصاص لإنجازه على الوجه الأمثل.

  • فَرْز الكتب النادرة في المكتبة الظاهرية عن سائر الكتب، وتجهيزها لإيداعها مستودعاً تتوافر فيه جميع الشروط الفنية اللازمة لحِفْظها وصيانتها.

  • أخيراً قال السيد "محمد الطويل" أمين مكتبة "الظاهرية": «إن عدد الكتب الموجودة في المكتبة بحدود(78) ألف كتاب، وحالما تنتهي عمليات الفرز رأى السيد "الطويل" أن المكتبة ربما تتحول إلى هيكل عظمي، فلا تحوي سوى المئات من أمهات الكتب في التراث العربي والإسلامي، ما يفقدها الغاية المرجوة منها، ولذلك يأمل العناية بالمكتبة من الداخل كما الخارج، وذلك من خلال تزويدها بالكتب ولو بنسخة واحدة، سواء من التي تنشر حديثاً، أو تلك الموجودة بمكتبة الأسد، أو تصوير نسخ عنها لتدب الحياة في المكتبة من جديد.