تثيرنا بين الحين والآخر متعة البحث والاكتشاف في معالم التاريخ، وما تخبئه من روائع أثرية وعمرانية بقيت خالدة للحديث عنها في ركنها الأصيل، كما هو باب "كيسان"، آبدة أثرية تطلّ على المتأمل بأحداث محمولة بدفء الماضي، وقداسته المستوحاة من

تذوق الجمال واستلهامه ليكون واقعاً عريقاً تتمثل فيه تلك المعالم والروائع، وللبحث عميقاً في هذا المعلم التاريخي الهام" e Syria" زارت موقع باب "كيسان" المجاور لمنطقة باب شرقي في امتداد الشارع الرئيسي.

هذه السنة السابعة لي في دار "مار بولس"، ولم أشعر إلا بالرفاهية والهدوء، والعناية في كل شيء الطعام والنظافة

«بنيّ باب "كيسان" في العصر الإسلامي المملوكي، وأعيد ترمميه خلال السنوات القليلة الماضية، ويعدّ من أهم أبواب "دمشق" السبعة، التي اشتهرت بها منذ حقب زمنية طويلة، وباتت الآن تاريخاً حاضراً، يعزز من مكانتها الأثرية والسياحية»..

جورج مخشن رئيس اللجنة العلمانية، ومدير شؤون دار مار بولس

هذا ما قاله السيد "أحمد العكّة" المشرف العام على موقع باب "كيسان" الأثر الذي التقيناه هناك بتاريخ 7/8/2008،وأضاف:تأتي أهمية الباب من موقعه الهندسي والعمراني على السور الروماني الأثري الذي يلفّ منطقة "باب شرقي" ويحيط "بالشام القديمة" في اتجاهاتها الأربع، وكونه أبعد الأبواب السبعة عن قلبها،ومن جانب آخر هو نقطة انطلاق المسيحية إلى العالم على يد القديس "بولس الرسول".

وحول خصوصية المكان، قال "العكّة": «في العام 1925، ضمت الكتلة الخلفية من باب "كيسان" إلى السور، وحولت إلى معبد للدين "المسيحي"، تمارس فيه طقوس العبادة والصلاة. وسميت تخليداً لذكرى القديس "بولس الرسول" «مقام القديس بولس». ولفظ "كيسان" يعود بأصله إلى اللغة الأرمية، وهي لغة "السيد المسيح"، وتعني الباب البعيد عن المركز، وأضاف: يزور باب "كيسان" على مدار السنة سياح مختلفوا الجنسيات، يقدمون من "أوروبا وأمريكية وأسيا وإفريقيا ومن الخليج العربي"، وأحياناً تزوره شخصيات بارزة ووفود رسمية، مثل السفراء والقناصلة، ولاسيما الوفود التي تقدم إلى "سوريا" لإنجاز مهام مسندة، والتعرف بنفس الوقت على حواضرها التاريخية والأثرية.

لوسيا مسعد

النافذة الملكية

لباب "كيسان" أجزاء نحتية ومعمارية تشكّل واجهته الرئسية من الخارج، ولجزء منها وصف جمالي يتعلق بالأيقونات الست المعروضة في المعبد داخله، فمنذ رؤيتنا الأولى للواجهة الرئيسية، يصادفنا نافذة ملكيّة تاجيّة الشكل، في أعلى الجدار الوسطي للباب، تشير إليها قصة القديس "بولس" التي ترويَها أحداث الأيقونات الست داخل المعبد،وتقول في تحليل مجرياتها:«أن القديس "بولس الرسول" في طفولته، وإثر تعرض أسرته لمشاق عصيبة، وضع في سلة وأنزل من خلالها إلى الأرض تفادياً لخطر محدق ونشراً للسلام». وقد ارتبطت تلك الحادثة بقدسية المعبد وأهمية طقوسه الصوفية و الدينية.

أما الجدار الوسطي فيلاصقه برجين عريضين، لفّ أعلاهما بأقواس حجرية صغيرة الحجم، متناسقة الشكيل، يتوسط كل برج منهما في نصفه الأعلى دائرة نحتية نافرة الملمس، حفر في داخلها 5 مثلثات متساوية الأضلع، وفي أحداها رمز نحتي نافر على شكل هلال، دلالة على الصفوة والسلام، يتخللها شريط زخرفي طويل، يمتدّ من البرجين حتى جانبي النافذة الملكية، وبني تحت كل دائرة نافذة طولية محدودة الحجم، تسمى "مرصد" حيث يمكن من خلالها رؤية القادم والخارج من الباب.

الملفت في التكوين العمراني، بناء قنطرتين بديعتي التركيب فوق بوابة الدخول مباشرة، الأولى وهي الأكبر مزخرفة بدوائر نحتية متداخلة ونافرة، والثانية وهي الأصغر مشرفة بعروق خطية محفورة بدقّة وإتقان، هذا إلى جانب الحجر المنحوت والمتلاصق مع بعضه في بناء الباب بوضعه الكلي، حيث يدلنا على مهارة بَنّاءه العربي، وثقافته الهندسية في تاريخه المنصرم.

بعد دخولنا البوابة، والوقوف على العتبة الأولى من المنصة الداخلية لباب "كيسان"، تصادفنا حجرة يسارية، مُلأت رفوفها بالصور الدينية والكثير من أنواع الهدايا الصغيرة، والتحف الخشبية المجسدة لقصة "السيد المسيح"، والديانة المسيحية، يمنحها المشرف هناك كتذكار جمالي للسائحين الذين يَقدُمون لزيارة المكان، والتعرف إلى ما فيه من خصوصية دينية وآداب إنجيلية..كما أن باب الحجرة الأثري، البالغ من الارتفاع ما يقارب المتر ونصف المتر، وقال عنه "العكّة": «أن الباب عمره 25 عاماً، صممه فنان أرمني، حيث عمل على تزيينه برسوم نافرة ونقوش بالغة الإتقان، مرصعة بالنحاس، تمثل دلالاتها التشكيلية عملية العمادة للسيد المسيح على يد القديس يوحنا المعمدان»، وأضاف: إن الكثير من النحاتين الذين قدموا إلى زيارة المعبد، حاولوا تقليد الباب بالنحت على الحجر الرخامي، لكنهم فشلوا وتركوا منحوتاتهم غير المكتملة بصمة منهم تدل على انسجامهم ووفائهم للرؤية الحسّية، التي أضافها هذا المعلم الأثري إلى ذاكرتهم الجمالية، ومخزونهم المعرفي.

الأيقونات الست

أما هيكل المعبد، فهو مؤلف من فسحة واسعة، تتوسطها طاولة رخامية ضخمة، تجرى عليها طقوس العمادة للمولود الصغير، وعلى الجدران علقت ست لوحات متساوية الأحجام، تسمى اللوحة منها "أيقونة مسيحية"، قام برسمها فنان روسي عام 2000، بمناسبة زيارة بابا روما "يوحنا بولس الثاني" باب "كيسان".وذلك كما أوضحه لنا المشرف العام على أمور المعبد،وأضاف: «تروي الأيقونات الست عبر شخوصها وملحمتها الإنسانية، الملتصفة بلمعان النور أحداثاً حياتية، تسلسل تفاصيلها الدقيقة قصة القديس بولس التبشيرية، وتقرأ بتعاقب خلال الأيقونات من الجهة اليسرى إلى الجهة اليمنى، وفي قراءتها الزمنية وشرحها البصري، التزام بالأدب الإنجيلي والمسيحي، وهذه الآداب تضفي إلى أجواء المعبد سمات صوفية من السكينة والصفوة والخشوع».

تزور المعبد سنوياً وفود أجنبية سائحة، فإن قدم معهم الخوري يَجرى قداس، وهو طقس تعبدي تقرأ فيه نصوص نبوية مختارة من كتاب الإنجيل أمام الأيقونات الست، وأحياناً يقام بداخل المعبد أفراح احتفالية كعقد الزفاف، وهناك يوم واحد،وهو "الأحد"، لا تقام فيه أيّة طقوس.

دار المسنين والأيتام

وخلال زيارتنا إلى باب كيسان الأثري، دخلنا إلى دار الأيتام والمسنين، التي بنيت منذ 9 أعوام إكراماً لوجود باب "كيسان" وتخليداً لذكرى القديس "بولس"، كما جاء في تاريخه التوثيقي، وتتألف من قسمين:الأول دار للأيتام، تسمى "دار المحبة"، وترعى أيتاماً من "مصر والسودان ودمشق"، وتقوم على تعليمهم مهناً توافق مقدراتهم وميولهم، حتى يستطيعون خلالها العيش والتأقلم مع الحياة العملية فيما بعد.

والثاني مأوى للعجزة والمسنين، ويسمى "دار مار بولس"، ويرعى الآن 30 عاجز وعاجزة من "لبنان والأردن وسورية"، ونظراً للحرص الشديد المبذول من قبل الراهبات في الدار على راحة المسنين وتفقد أمورهم وخدمتهم، فإن الكثير ممن قدموا إليه رغبوا البقاء فيه مدّة أطول، وبعضهم فارق الحياة ولم يغادره أبداً.. وفي الصيف يقومون بزيارة الأماكن السياحية والأثرية والمنتزهات، حتى تهدأ نفوسهم وتزول عنهم كوابيس الماضي، وينسون بما يَرون شبح الموت الذي يتهدد في كل ثانية تمر واحداً منهم.

من بين هؤلاء المسنين التقت "e Syria" السيدة "لوسيا مسعد" البالغة من العمر 82 عاماً حيث قالت عن وجودهها في الدار: «هذه السنة السابعة لي في دار "مار بولس"، ولم أشعر إلا بالرفاهية والهدوء، والعناية في كل شيء الطعام والنظافة»، وأضافت: علمتني السنين التي عشتها حتى قدومي إلى هنا، أن لا أسيء إلى أحد، ولا أحسد أحداً، ولا أشتم من كان جوابه خالياً من الأدب، وإنما أحتمله وأحول غضبه إلى كلمة اعتذار يقولها لي، وهذه سمة من سمات عديدة تنتهجها دار "مار بولس" في طرق رعايتها ومعاملتها مع المسنين.

السيد " جورج مخشن" رئيس اللجنة العلمانية ومدير شؤون الدار، قال حول المبادئ التي يسيرون وفق نهجها: «نحن أمة تجمعها الفضيلة والأخلاق في إنسانيتها، نخدم غيرنا من الناس ونحفظ لهم، ما نحب أن يصان لنا ويحفظ، وهذه قاعدة متينة في دار "مار بولس" لحفظ حقوق المسنين، والعمل على راحتهم، ولا نريد بذلك التفخيم بأنفسنا، وإنما رؤيتهم ومحادثتهم تبرهن ما قلت».

أهمية سياحية

المميز في البناء الخارجي للباب "كيسان" وجود نصب تذكاري في الجهة اليسرى، منحوت من البرونز الصرف، يأسر متأمله ببراعة نحته وتشكيله الواقعي الدقيق، حول هذا النصب قال المشرف "أحمد العكّة" لـ "e Syria ": « صنع هذا التذكار النحات الإيطالي "بيير يند جيلميني" من البرونز الصرف، ويشكّل تمثالاً واقعياً للقديس "بولس"، وهو يسقط عن فرسه عند ظهور "السيد المسيح" أمامه في تل "كوكب" بمنطقة "داريا"»، وأضاف: قَدِمَ العمل النحتي إلى دمشق، بأمر من بطريرك روما ليكون هيئة جمالية أخّاذة، تبين لناظرها عبر تفاصيلها النحتية مشهداً بصرياً واقعياً لقصة القديس "بولس"، عدا عن كونه ذكرى تخليدية، تكرّم المكان وحضوره الديني، ولا يفوتنا الذكر أن نصب القديس "بولس" أحيط بأشجار الزعرور البري، وأصناف الورود المختلفة التي تزيد في حضوره جمالاً وتميز.

وحول رأي زائري باب "كيسان" بالموقع الأثري وانطباعهم عن قداسة المعبد، التقينا السيد "جون نعمجة" البالغ من العمر 70 عاماً، وهو زائر من حلب قال: « سمعت عن باب "كيسان" الكثير مما حثني إلى القدوم والتعرف إلى موقعه الأثري عن قرب، والآن أتيت زائراً له من حلب، ورأيت ما لم أكن أتوقعه من فن النحت بالحجر، وتحويره بتكوين رائع يجعل من موضع تثبيته في الجدار مبعثاً للهدوء والسعادة في النفس، خاصة أجواء المعبد القداسية التي تدفع بالذاكرة إلى استقراء سريع للماضي، واستعادة الأخطاء المرتكبة، وطلب المغفرة والسماح على ارتكابها».

تؤيده الرأي السيدة "منى حداد" البالغة من العمر 50عاماً، حيث قالت: « جميل أن يكون للإنسان تاريخ قديم يعتزّ به، ويقدم على ذكره بين الحين والآخر، كأن نذكر هذا المعبد والترابط الديني والتآخي الذي يحدثه بين الوافدين إليه..هذا ما شعرت به كوني أزوره للمرة الأولى، فمنذ وصولي، ملأتني أجوائه السكونية بخشوع كبير غمر قلبي بالتفاؤل والأمل».