إضافة إلى المعالجة المجانية بالمارستان يعطى المريض نقوداً للإنفاق منها خلال فترة النقاهة، والأطباء يتجولون في الأرياف والقرى وفي حقائبهم الأدوية لمعالجة المرضى!!

كثيراً ما نسمع بعض الكلمات التي قد لا نفهم معناها، وإذا فهمناها فهي على الغالب لا تعني لنا شيئاً، لأن ذلك لم يعد ينتمي إلى عالمنا والواقع الحالي.

لكن التذكير بهذه الكلمات، هو تذكير بجانب بتاريخ مهم يجب أن لا ينسى، لأنه يبث فينا روح الحماسة والإبداع لنعيد قيادتنا وإبداعنا ليس في محيط الوطن العربي بل على المستوى العالمي، ولعل من أهم هذه الكلمات كلمة (( البيمارستانات)) فماذا تعني هذه الكلمة ؟ وإلى ماذا تشير ؟ وإذا عرفناها فبماذا تذكرنا؟.

الاستاذ بشير زهدي

الكلمة أصلها فارسي وهي آتية من بيمار ومعناها مريض وأستان- مكان، وغالباً ما تختصر إلى مارستان في الدول العربية، وقد عربت هذه الكلمة فأصبحت مستشفى أو مصح منذ فترة ليست بعيدة ويعتقد أن استخدامها بدأ بالانتشار في بدايات القرن العشرين وبالتحديد في الثلث الأول منه.

لكن ماذا عن البيمارستانات في دمشق باعتبارها أول مدينة في العالم الإسلامي، وربما على مستوى العالم كله تبني البيمارستانات أي المستشفى، وهو دليل على مدى أهمية هذه المدينة في التاريخ، وكونها رمز للتقدم الحضاري في ذلك العصر، وإشعاع نور للعالم وخاصة في العصر الأموي.

أول مشفى :

يقول الدكتور الباحث بشير زهدي أستاذ علم الجمال في كلية الفنون الجميلة مدير المتحف الوطني سابقاً: تجمع جميع المصادر التاريخية على أن البيمارستان، المؤسسة الصحية لم يكن له وجود على الإطلاق في أي بلد من البلدان، وأن أول من بنى البيمارستان في الإسلام هو الوليد بن عبد الملك، وهو أول من عمل داراً للضيافة وذلك في عام /88 هـ 707 م/، ويقول المؤرخ المشهور المقريزي: إن الوليد بن عبد الملك جعل في البيمارستان الأطباء وأجرى الأرزاق على المرضى، وخصص مكاناً للمجذومين، وأمر بعدم إخراجهم منه كي لاتنتقل العدوى، وقدم لهم كافة الاحتياجات من مأكل وملبس ومصروف، وجعل لكل عاجز خادماً يخدمه، ولكل أعمى قائداً يقوده أينما أراد، وأجرى الأرزاق عليهم جميعاً، ومن ثم انتشر بناء البيمارستانات في بلاد المشرق العربي، وخاصة في الشام، مصر، والعراق وأصبح عددها /34/ مارستاناً.

يقول السيد زهدي : لم يكن في دمشق أول مشفى فقط، وإنما صار يستفاد من إمكانات الأطباء فيها، وكيفية إدارتهم لهذه المؤسسات الصحية، تذكر كتب الرحالة أن الوزيرالعباسي علي بن عيسى الجراح أمر ببناء مشفى في سنة /302 هـ/ وأعطى رئاسته إلى أبي سعيد بن يعقوب الدمشقي، وبفضل هذا الطبيب بني في بغداد خمسة بيمارستانات، وبفضلة وإرشاداته بني العديد من البيمارستانات، وأشرف عليها .

اهتمام كبير:

يتابع السيد زهدي : الاهتمام ببناء هذه المشافي والإنفاق عليها كان كبيراً حتى أن راتب الطبيب في المارستان وصل إلى /600/ دينار، وكانت تكاليف المرضى تضم الأغطية لهم، وثمن الفحم في الشتاء، والأكل والشراب فيه، هذا ويذكر أن في المارستان يوجد الكثير من الموظفين مثل المعالجين والخزنة والبوابين والوكلاء والنواطير إضافة إلى الطباخين ومساعديهم ويضيف كان ينفق على هذه البيمارستانات من أموال الوقف، ليس هذا وحسب بل كان الأطباء يزورون المرضى المسجونين ويعطونهم الدواء المناسب، حيث كانت النساء تستقبلن في السجون كممرضات، ولتتطور الخدمات الصحية أكثر فأكثر حيث تم تشكيل بعثات صحية تحمل صناديق وخزانات الأدوية إلى القرى والأرياف البعيدة، حيث يعتبر حق المعالجة ودخول البيمارستان لكل مواطن .

أشهر البيمارستانات:

كلمة أشهر لا تعني دائماً الأكبر والأجمل، بل يمكن أن يكون لها معاني أكثر عمقاً وشمولية كأن تشمل أنواع الخدمات التي تقدم، ومهارة الأطباء وتميزهم في العمل، وهذا ماحافظت عليه دمشق رغم مرورها آنذاك بالكثير من الظروف الصعبة.

وقد انتشر بناء البيمارستانات في دمشق حيث بنى نور الدين محمود بن زنكي عدداً من البيمارستانات في دمشق وحلب والموصل وأهمها مارستان دمشق الذي لا زال بناءه قائماً حتى الآن يقول ابن جبير عنه: (( في دمشق مارستان قديم حديث ما يزال بناءه قائماً، وهو أجمل ما شاهدت إضافة إلى سعته وكانت جملة إنفاقه في اليوم /15/ ديناراً، وكان حسن التنظيم حيث يكتب الطبيب في الدفتر النفقات التي يحتاجها المريض، والأدوية التي عليه أخذها، والأغذية التي يحتاج إليها، وكله بالمجان)).

ويضيف د.زهدي كما كان الأطباء يبكرون في الذهاب إلى المرضى فيقومون بفحصهم ويأمرون بإعداد ما يحتاجونه من الأدوية والأغذية، وكان المارستان مزودا، بمكتبة وتلقى فيها الدروس في مختلف اختصاصات الطب كطب العيون وطب الامراض الجلدية وغيرها من الاختصاصات كما كان هناك الصيادلة والفنيين وغيرهم.

ولعل أشهر مارستان بني في أواسط القرن الرابع سنة /368 هـ /978 م/ في دمشق كان مارستان الدقاقي وهوملتصق بالجامع الأموي، ويعتبراشهر مارستان في العالم آنذاك وكان يعمل فيه 24 طبيباً،وكان العلاج والأدوية يمنحان فيه بالمجان واستمر ذلك لفترة تجاوزت الثلاثة قرون، و سمي المارستان بالدقاقي في آواخر القرن الخامس على اسم ملك دمشق آنذاك دقاق بن تتش السلجوقي، ولعل من الأشياء العجيبة أن المريض إذا خرج من المشفى ليقضي النقاهة في بيته كان يعطى مبلغاً من المال لينفق عليه منها في مأكله ومشربه وملبسه حتى يشفى- أي أن المريض كما كان هناك مشافي خاصة بالنساء أو أجنحة خاصة بهن في باقي المشافي.

إنسانية البيمارستانات:

البيمارستانات كانت ظاهرة حضارية لم يسبق العرب إليها أحد في ذلك الوقت، حضارية من حيث البناء والتقسيم والاختصاصات واختيار الأماكن، وكانت إنسانية تستوعب كل الناس الفقيروالغني والمعالجة والنفقات مجانية، وكانت أخلاقية لأنها كانت تحافظ على إنسانية الإنسان دون أن تشعره بأن أحداً يتفضل عليه، أو أن مدين بالفضل لغيره.

ويؤكد الباحث زهدي أن ظاهرة المارستانات انطلقت منها لتنتشر في كل البلاد العربية والعالم الإسلامي، وبدأ التفنن في تجويد البناء واختيار الأطباء وباقي الكادر الفني ،وتقديم المزيد من الخدمات للمرضى حتى صار يضرب المثل في بعض المارستانات، وأصبحت عند الكثير من الناس عبارة عن منتزهات يذهبون إليها للتويح عن أنفسهم، مثلما كان يحدث في المارستان الذي أنشأه صلاح الدين الايوبي للفقراء والضعفاء والمرضى وأجرى عليه وقفه، وقد اعترف الغرب بتقدم هذه المارستانات، واعتبرها خطوة حضارية متقدمة جداً، وقال نوربيرجير في هذا وهو مؤرخ لتاريخ الطب والعلوم ((إن تنظيم البيمارستانات هو أحد المستحدثات الجميلة للثقافة العربية)) ونضيف هنا ايضا أن دمشق لم تكن رائدة في مجال إحداث المارستانات وحسب بل كانت رائدة في الكثير من المجالات الأخرى الحضارية والإنسانية.