على الرغم من الحداثة التي تحيط به، إلا أنه حافظ على طابعه الشعبي البسيط والاستهلاكي، حيث أطلق عليه سوق "الضيعة" لتنوع بضائعه ورخصها، وسمي السوق "الكبير" نسبة إلى جامع "كفرسوسة" الكبير.

ما يميز "السوق الكبير" موقعه المتميز وسط "دمشق"؛ حيث يقصده الغني والفقير، وكما هو معروف فالمناطق المحيطة بـ"كفرسوسة" زراعية؛ ولهذا يبيع الفلاحون منتجاتهم الورقية الخضراء فيه، وهذا جعله مقصداً لأهالي المنطقة والمناطق المجاورة لرخص بضائعه وتنوعها وجودتها.

عرفت منطقة "كفرسوسة" ومحيطها بغزارة مياهها؛ ولهذا يحوي السوق عدداً من البحرات، وإحداها حملت اسم "مرجان" ووجدت في أرض لبيت عربي، ومن كثرة حب صاحب البيت لها فقد سمّى ولده "مرجان"

مدونة وطن "eSyria" زارت السوق بتاريخ 22 كانون الثاني 2016، والتقت أحد روّاده "أديب الخضري" من منطقة "القيمرية" من مواليد 1944؛ الذي حدثنا قائلاً: «بني هذا السوق في القرن العشرين ومازال محافظاً على طابعه الشعبي على الرغم من الأبراج السكنية المحيطة به؛ التي بدأت تحتل مكاناً في وسطه، وأنا أتردد إليه دائماً وخاصة في الصباح الباكر، حيث يقوم الفلاحون ببيع منتجاتهم فور قطافها من الأرض؛ التي تتمتع بمذاق حلو، وهذا يعود إلى المياه التي تسقى منها، وهو يلبي طلبي فأسعاره رخيصة وبضائعه متنوعة وجودتها عالية، كما أنني أشعر بالراحة وأنا أشتري لأن أغلب تجار السوق يتمتعون بأخلاق طيبة، وأستطيع انتقاء الخضار التي أرغب بشرائها، وبأسعار قريبة إلى أسعار "الجملة"».

السمان "ياسين هايلة"

جرى العرف بين تجار السوق بتوريث المصلحة للأبناء؛ ولهذا من يعمل بالسوق حالياً هم فئة الشباب، فالتجار المسنون تركوا العمل التجاري الذي يحتاج إلى جهد عضلي وذهن متقد لأبنائهم، ومن تجار الجيل الثاني التقينا "ياسين هايلة" فحدثنا عن عمله بالقول: «أنا من مواليد 1963؛ ورثت المحل من والدي "يوسف هايلة"، وحافظت على مهنة "السمانة" التي كان يمتهنها الوالد؛ الذي أسس علاقات متينة مع قاصدي السوق، الذين يتجاوز عددهم 5 آلاف نسمة يومياً.

وما يضيف نكهة خاصة بهذا السوق ويميزه عن بقية الأسواق الدمشقية؛ امتهان أهالي "كفرسوسة" للزراعة؛ إذ يمتلكون أراضي زراعية قريبة لمكان سكنهم، فيضعون منتجاتهم الزراعية على "بسطة" مصنوعة من الألواح الخشبية، أمام عدد من محال الخضار والفواكه، منادين: "خساتك الكبار يا مال اللوان"، والجميل هنا أنك لا ترى تذمراً أو إساءة لهؤلاء من قبل أصحاب المحال، فهم مقتنعون بأن الإنسان لن يأخذ غير نصيبه ورزقه من هذه الدنيا. وقد حملت العديد من العائلات ألقاباً بحسب المهنة؛ كعائلة "بقلة" و"اللحام"، وما يزال السوق محافظاً على طابعه القديم، مع العلم أن منطقة "كفرسوسة" دخلت بالتنظيم وسمح ببناء العديد من الأبنية الطابقية، لكنني ما زلت أسكن في بيت عربيّ».

«الطابع الطاغي في السوق استهلاكي؛ كما يقول التاجر "بشير الزهراوي" من مواليد 1967 الذي التقيناه في محله، وعن ذكريات والده مع تجار السوق يحدثنا: «لم أغير المهنة التي ورثتها من والدي، الذي توفي عام 1994؛ حيث اشتهر بصنع الحلويات وخصوصاً "الهيلطية" المصنوعة من الحليب والنشاء، وكان يُحضر صواني الحلو قبل صلاة الفجر لتكون جاهزة فور خروج المصلين من الجامع "الكبير" الذي بني في عهد "عمر بن الخطاب"، الذي سمي السوق باسمه "السوق الكبير"؛ حيث كانوا يرغبون بأن يفتتحوا نهارهم بلون أبيض "ليستبشروا خيراً"، كما كنا نزين حيطان السوق بالسجاد ونقدم "الملبّس البلدي" لمعظم زائري السوق، ونضع الحلويات الشرقية أمام باب المحال احتفالاً بالمولد النبوي وعيدي الفطر والأضحى».

يتميز السوق بأنه تجاري وسكني؛ وهذا ما جعله في حالة حركة دائمة فالمحال تفتح حتى الساعة العاشرة مساءً، لكن الذروة من الساعة التاسعة صباحاً حتى الرابعة بعد الظهر؛ هذا ما قاله التاجر "محمد عقيد" الذي التقيناه في محله الواقع وسط السوق؛ الذي ورثه من والده؛ حيث حدثنا عن حدود السوق بالقول: «السوق عريق، وهناك معالم قد اختفت نتيجة الزمن، لكنني ما زلت أذكر السبيل الذي كان يبعد عن محلي 50 متراً فقط، والذي كانت تشرب منه الدواب. تتميز أغلب المحال بديكوراتها البسيطة ومساحتها التي تتراوح ما بين 5 إلى 9 أمتار، كما يبلغ طوله 200 متر، ويحوي قرابة 300 محل موزعين على جانبي السوق، ويتسع لمرور سيارة لكن بصعوبة، وما جعله شبيهاً بأسواق "دمشق القديمة"، إضافة إلى العمر الزمني وجود بيوت عربية لها أبواب خارجية صغيرة. كما يحوي السوق قنطرتين موجودتين من جهتي الشرق والجنوب».

صانع الحلويات "بشير زهراوي"

يكمل حديثه: «للسوق أربعة مداخل، من جهة الشرق شارع فرعي صغير يسمى شارع "المسلخ"؛ لكثرة الذبائح التي كانت تذبح في هذا الشارع، وهو مطل على ساحة "كفرسوسة". ومن جهة الجنوب الشارع الرئيس عند دخلة "الجمالة". ومن جهة الغرب قهوة "شوشرة"؛ وهي أقدم قهوة بالمنطقة يعود عمرها إلى 300 عام، وفي السبعينيات كان وجهاء المنطقة يجتمعون في القهوة بعد صلاة المغرب، لحضور مسلسل "حارة القصر" ويدفعون أجرة 10 "قروش" في ذلك الزمن، قبل دخول التلفاز إلى المنازل. وقد كانوا يلبسون اللباس العربي ويضعون الطرابيش، وما زال هناك عدد من أهالي المنطقة يلبسون اللباس التقليدي؛ فالنساء يرتدين "الشروال الأزرق والملاية"، أما الرجال فيرتدون "الشروال الأسود". والمدخل الشمالي مقام "أبو النور" الذي يقع في نهاية السوق. وقد كان له باب يغلق ليلاً. ويعرف باسم سوق "الضيعة" من قبل الأهالي؛ لأن زواره يقضون نحو خمس ساعات متتالية فيه لتنوع بضائعه، وقد كان يبسط فيه عدد من باعة الحاجيات المنزلية القديمة وبأسعار منخفضة».

ويتابع: «عرفت منطقة "كفرسوسة" ومحيطها بغزارة مياهها؛ ولهذا يحوي السوق عدداً من البحرات، وإحداها حملت اسم "مرجان" ووجدت في أرض لبيت عربي، ومن كثرة حب صاحب البيت لها فقد سمّى ولده "مرجان"».

"خالد الفياض" من مؤسسي ماجستير التراث الشعبي بجامعة "دمشق"، وعن تاريخ المنطقة التي يقع فيها السوق قال: «تعود إلى العهد الآرامي؛ وهي من الأحياء القديمة جداً في "دمشق"، وبنيت بالتزامن مع بناء المدينة، وتبعد عن مركزها نحو 8كم. وسميت "كفر سوسة" لأن كلمة كفر تعني مزرعة لكثرة المياه والأراضي الزراعية، أما "سوسة" حيث أتت هذه التسمية من "ساسة الخيل" الذين كانوا يتواجدون بكثرة في هذه المنطقة. كما أنها تقسم إلى ثلاثة أحياء: "البلد"، و"الواحة"، و"اللوان"، وجزء من حي "الإخلاص"، بني فيها أقدم مساجد "دمشق" وهو مسجد "كفرسوسة الكبير"، وتحوي مكاناً أثرياً وحيداً؛ وهو مقام الشيخ "عبد الرحمن العسقلاني"».