كثرٌ من نعوه، وقلائلٌ من يحاولون إنقاذه، والجميع يسأل: «أين ذهبت يا "بردى"، ومن دفعك إلى الرحيل؟». ذلك النهر الدمشقي الجميل أصبحنا بحاجة لذاكرة قديمة حتى نستعيد مشهده المليء بالحياة، ومن سبق وعرفه يبكي اليوم على فقدانه، وعلى تلك الأيام بقربه.

eSyria في 24/11/2009 حاول الإجابة عن هذا السؤال، ليبدأ من الذاكرة، وذاكرة الشاب "باسم حيدر" خمس وثلاثون عاماً ما زالت تحتفظ بصور تلك الأيام حين كان يلعب بجانب النهر في منطقة "الربوة". حينها لم يتخيل يوماً أن بردى سيكون على حاله كما هو اليوم، ولم يتصور أن رحليه سيخلف ما هو أشد قسوةً من ألم تذكره، هي تلك الآثار التي ترتبت على اختفائه من أوساخ وملوثات وروائح.

لا ورد للقوم إذا لم يعرفوا بردى – إذا تجوب عن أعناقها السدف

ويضيف "حيدر": «أتذكر النهر جيداً حين كان يفيض متجولاً في معظم مناطق "دمشق" من "الربوة" و"دمشق القديمة" ومنطقة "المرجة" ومناطق كثيرة غيرها، حيث معظم الأسر الدمشقية تأتي لتجلس قربه في رحلاتها أو في المقاصف المجاورة له. اليوم نبتعد عنه ونأسف لما حل به ولما يحتويه من أوساخ ومياه سوداء كانت في يوم تعكس وجه الشمس على وجوهنا».

نهر بردى قديماً

لم يغب نهر "بردى" يوماً عن "دمشق" فمن منبعه من بحيرة تقع جنوب منطقة "الزبداني" -شمال غرب "دمشق"- إلى مصبه في بحيرة "العتيبة" -جنوب شرق مدينة "دمشق"- يقطع مسافة يصل طولها نحو واحد وسبعين كيلو متراً، وعرض يتراوح بين خمسة إلى خمسة عشر متراً ماراً من موطنه "دمشق" وغوطتها ونحو ثلاث عشرة بلدة، وتتحدث الموسوعات أيضاً أن المؤرخ "ابن عساكر" ذكر بأن النهر كان يسمى قديماً بنهر "باراديوس" أي نهر الفردوس وأطلق عليه "الإغريق" نهر الذهب.

وكذلك الشعراء ما زالت قصائدهم تتحدث عنه وتتغنى به منذ الأزل فقال "جرير": «لا ورد للقوم إذا لم يعرفوا بردى – إذا تجوب عن أعناقها السدف».

باسم حيدر

وقال الشاعر "بدوي الجبل": «بردى والورود في ضفتيه/ مصغيات لشعره والخزامى».

أما الشاعر "نزار قباني" فقال:

النهر بجانب أحد المقاصف

«يا بلدة السبعة الأنهار.. يا بلدي... ويا قميصاً بزهر الخوخ مشغولا

ويا حصاناً تخلى عن أعنته.. وراح يفتح معلوماً، ومجهولا

هواك يا بردى، كالسيف يسكنني... وما ملكت لأمر الحب تبديلا

أيام في "دمر" كنا.. وكان فمي... على ضفائرها.. حفرا.. وتنزيلا

والنهر يسمعنا أحلى قصائده... والسرو يلبس بالساق الخلاخيلا».

من تغنت به "فيروز" ومن كتبت فيه القصائد هو اليوم بحاجة إلى حل سريع حتى ننقذ ما يمكن إنقاذه، لاسيما وأن الدراسات أثبتت الضرر الذي يخلفه النهر نتيجة قلة المياه الجارية فيه وشحها، ومنها الدراسة التي أجرتها وزارة الدولة لشؤون "البيئة" والتي هدفت إلى معرفة قياس ملوثات الهواء والروائح المنبعثة من القنوات المكشوفة في مدينة "دمشق"، وقد قام الفريق بإجراء مسح ميداني لأغلب قنوات الصرف الصحي المكشوفة خلال فترة خمسة عشر يوماً في شهر تموز 2009، وقد تبين خلال الرصد البيئي والمشاهدة العينية أن أغلب القنوات هي فروع لنهر "بردى".

وقد ذكرت الدراسة في نتائجها حسب ما توصل إليه فريق العمل بإشراف مدير المخابر المركزية في الوزارة الكيميائية "رونق جبور" إلى أن تركيز الملوثات في بعض المناطق عالٍ جداًً ومتجاوزة الحد المسموح به.

يبين مدير عام الموارد المائية في دمشق وريفها الدكتور "جميل فلوح" أسباب قلة المياه الجارية في النهر فقال: «المصادر الرئيسية التي يتغذى عليها نهر "بردى" أصبحت تذهب معظمها لمياه الشرب، نتيجة الاحتياجات التي فرضتها الزيادة السكانية، لاسيما نبعا "بردى" و"الفيجة"».

ويضيف: «قديماً كان عدد سكان المنطقة لا يتجاوز نصف مليون نسمة، وبالتالي فإن احتياجاتهم كانت أقل بما فيها احتياجات الري والزراعة، ولكن في الفترة الأخيرة زادت كل النشاطات المستهلكة للمياه ما أدى إلى قلة الموارد المائية».

وبالنسبة لأثر الهطولات المطرية على النهر أوضح د."فلوح" أنه ليس للمتغيرات المناخية ذلك الأثر الكبير على النهر وتأثيرها غير ملحوظ، أما بالنسبة للآبار المخالفة والتي يستخدمها المزارعون لسقاية أراضيهم فقال: «بعد العام 2000 أصبح هناك اهتمام بموضوع الآبار المخالفة، وهناك إجراءات مشددة وخاصة بعد صدور قانون التشريع المائي، فخلال السنوات الثلاث الأخيرة كان عدد الحفارات المحجوزة نحو 224 حفارة سنوياً، وفي العام 2008 وصل العدد إلى نحو 225 حفارة، وخلال النصف الأول من العام الحالي وصل العدد إلى نحو 120 حفارة».

وحول إمكانية عودة نهر بردى كما كان سابقاً قال د."فلوح": «إن المديرية أنجزت بناء على توجيه الوزير رؤية حول الإجراءات التي يمكنها تحسين نهر "بردى"، وتقوم هذه الرؤية على أن مياه الصرف الصحي يمكن أن تشكل رافداً معقولاً للنهر بعد معالجتها بشكل جيد ووفق مواصفات معينة، وقد خاطبت وزارة "الري" وزارة "الإسكان" وحددت المواصفات التي تراها ضرورية للمياه المعالجة لضخها في مجرى النهر».