كأم رؤوم يحتضنها جبل الشيخ من جهات ثلاث، ويطلق وجهها جنوباً محرراً ناظريها نحو سهول الغوطة الغربية لريف دمشق، بإطلالة على حوران وجبل العرب، لتلقي على تلك المواقع نظرة المتأمل بجمال الطبيعة وعظمة الخالق، من مربضها في أحضان الحرمون.

هي قرية "بقعسم" التابعة لمنطقة "قطنا" والتي تبعد عن العاصمة دمشق 44 كم، يزيد ارتفاعها عن سطح البحر نحو 1650 متراً، ولكل بيت من بيوتها المتباعدة والمعلقة على سفوح الحرمون قصة تحكي التمسك بالمكان رغم قرّ الشتاء.

أهالي القرية يزرعون الأشجار المثمرة كالكرمة والتين والزيتون والكرز والتفاح والمشمش والجارنك واللوز، وجميع هذه الأشجار تنضج متأخرة عن بقية مناطق سورية بسبب برودة المناخ، وتلك الزراعات تتركز على ضفتي نهر الأعوج في وادي "بحيران"، وإلى الشرق من القرية حيث الزراعات البعلية، وفي المنطقة الجبلية، كما يزرع السكان الحبوب والبقوليات وبعض الخضار، ويعمل عدد قليل بتربية الأبقار والأغنام والماعز، ولايزالون يحتفظون باللباس الشعبي القديم ويتمسكون به كرمز عن عاداتهم وتقاليدهم، ويعيشون كأسرة واحدة في بيوت متلاصقة وقريب بعضها من بعض

مدونة وطن eSyria زارت قرية "بقعسم" والتقت المهندس "فندي حسون صقر" ليتحدث حول القرية وتسميتها فقال: «يصل القاصد إليها عبر طرق متعرجة تخترق ودياناً وسهولاً وهضاباً مختلفة صعوداً من "قطنا"، يحدها من الجنوب وادي "بحيران" الذي يمر به نهر "الأعوج"، ومن الشرق "بيتيما" وأراضي "قلعة جندل"، ومن الغرب قرية "الريمة"، ومن الشمال الأراضي الجبلية التي تفصلها عن "لبنان"، ويبلغ عدد سكانها نحو أربعة آلاف نسمة، يعيش قسم منهم في مدينة "جرمانا" وبلدتي "صحنايا" و"أشرفية صحنايا"، بالإضافة لعدد قليل في المغتربات.

بحيران الخير والعطاء

وحول تسميتها تختلف الآراء، واستناداً لمراجع تاريخية فإن الروايات في القرية تقول إنه أيام الحروب القديمة والغزوات كان أهل القرية يدافعون بشراسة عن قريتهم، وأن العدو الذي يحاول الاقتراب منها لابد من النيل منه والقضاء عليه، حتى أصبح الكل يخشون الاقتراب منها لذلك سميت بقع- سم، وهي تتألف من مقطعين ومن ثم أصبحت تكتب كلمة واحدة بقعسم، فيما تقول مراجع أخرى إنه نتيجة بردها القارس الذي يمكن أن يترك ندوباً على الجسم كالبقع ويقتل كالسم، أطلق عليها هذا الاسم، على حين تقول مصادر أخرى إن سبب التسمية غلبة المساحات التي لا تصلح للزراعة ولا تسمح بنمو النباتات، وأوضح أنه توجد بالقرب منها بعض الآثار القديمة التي تحيط بها، أشهرها خربة "عين سكر" و"عين الجراجمة" و"قصر شبيب"، كما عثر في القرية على بعض القطع الفخارية القديمة التي تدل على أن القرية كانت مأهولة قبل مئات السنين، ويحيط بها عدد من القرى كـ"قلعة جندل" و"بيتيما" و"كفر حور" و"الريمة" و"عرنة"، وتتشاطر معها برودة المناخ شتاءً فيكسو الثلج تضاريسها ويعزلها عن "دمشق" وبقية القرى، ومع قدوم الربيع تتحول الثلوج إلى مياه تغذي أراضيها وتجعل من بساتينها جنة خضراء تزينها الورود البرية بألوان رائعة ومتعددة».

ويشير المهندس "صقر" إلى أنه وعلى الرغم من برودة هذه القرية التي لا تزال تحتفظ بنمطها المعماري القديم مع بعض التجديد، إلا أن الكثير من سكانها يقيمون فيها في فصل الشتاء وقد تكيفوا مع برودة المناخ ما جعلها تصنف بأنها أعلى منطقة مأهولة بالسكان في سورية، وقال عن بيوتها القديمة إنها مبنية من الحجارة والطين والخشب، وقد أزيلت هذه البيوت وبني مكانها منازل إسمنتية على الطراز الحديث بحيث تواكب التطور العمراني وغالباً ما تتكون من ثلاث طبقات، أما جدران هذه المنازل فبعضها مبني من طبقتين من البلوك الاسمنتي المفرغ لمراعاة الظروف الجوية والرطوبة على أن يترك مسافة فارغة أو عازلة، ما يقلل من هدر المحروقات في الشتاء ويحافظ على برودة المنزل صيفاً، وفي البعض الآخر من تلك البيوت هناك من حافظ على النمط القديم، ويتكون من عدة غرف وأهمها غرفة للمؤونة تحفظ فيها كل عائلة ما تنتجه من مشتقات الحليب واللحوم والفواكه إلى المواسم الأخرى، تحسباً للظروف والعوامل الجوية التي ذكرت آنفاً كتساقط الثلوج وانقطاع الطرق، وبالتالي انعزال القرية عن مركز المدينة.

جانب من بساتين بقعسم

وتشهد العملية التعليمية حركة نشطة في القرية مقارنة بباقي القرى في جبل الشيخ، حيث يوجد فيها عدد كبير من الشهادات الجامعية من مختلف الفروع، وغالباً ما تحقق اكتفاءً ذاتياً من الكوادر التدريسية، بل يدرّس قسم منهم خارج القرية، وفي هذا الإطار يقول الأستاذ "محمد صقر" موجه تربوي: «يوجد في القرية مدرسة ثانوية بفرعيها العلمي والأدبي، إضافة للحلقة الثانية، كما يوجد مدرستان حلقة أولى بالإضافة للصفين الخامس والسادس، وروضة أطفال تابعة لوزارة التربية، وأبنية هذه المنشآت كافية لعدد التلاميذ الحالي في القرية.

عدد الشهادات الجامعية يقدر بحوالي 150 شهادة، فيما عدد خريجي المعاهد المتوسطة حوالي 125 خريجاً، عدا مئات الشهادات الثانوية، وتكاد نسبة الأمية تنعدم في القرية نتيجة مواكبة التطور التقني والتعليمي، ونسبة التسرب في الحلقة الأولى معدومة، بينما تسجل أرقام بسيطة في المرحلة الإعدادية والثانوية.

الدائرة الحمراء مكان بقعسم على الخارطة

الوعي والشعور بأهمية التعليم لدى الجنسين دفع سكان القرية لتعليم أبنائهم لما له من أثر كبير على حياة الفرد المعيشية والشخصية والاجتماعية ومناحي الحياة الأخرى، ويعود السبب في الإقبال على التعليم إلى جعل الأسرة موضوع التعليم أول اهتماماتها، ولا نبالغ إذا قلنا قبل أمور كثيرة، رغم الإمكانات المتواضعة للبعض منهم، ولعل رغبة الشباب بالهروب من الواقع الصعب الذي عاشه آباؤهم دفعتهم إلى المدارس والجامعات بإقبال منقطع النظير، كذلك ضيق المساحات الزراعية والمصادر الأخرى للعيش».

وحول الخدمات في القرية حدثنا رئيس البلدية الأستاذ "راضي صقر" بالقول: «تتصل بقعسم بشبكة من الطرق المعبدة مع القرى المجاورة إضافة إلى وجود شبكة لمياه الشرب والكهرباء والصرف الصحي، وهي تتميز بقربها من العاصمة دمشق حيث لا يتكبد الزائر عناء السفر الطويل للاستجمام وتنشق الهواء العليل.

تفتقر القرية إلى الاستثمار السياحي حيث لا يوجد فيها أي مطعم أو فندق سياحي رغم روعة الإقامة فيها فحتى يستطيع الزائر الإقامة فيها يجب أن يكون ضيفاً في أحد بيوتها، كما أنه لا يوجد فيها مستوصف، ما يضطر السكان للذهاب إلى القرى المجاورة أو إلى منطقة "قطنا" لتلقي العلاج في الحوادث الطارئة والمستعجلة، كما لا يوجد فيها مركز ثقافي أو أماكن لممارسة الأنشطة الرياضية، بالإضافة لضيق شبكة الهاتف وعدم قدرتها على تغطية عدد السكان في القرية، وقد قمنا بتقديم الكثير من الطلبات حيال ذلك.

أهم ما تعانيه القرية هو عدم تطبيق توسيع المخطط التنظيمي رغم مطالبة البلدية الحثيثة لذلك منذ 2007 وعلماً بأنه تمت دراسته منذ 2008، وكان قد صدر اول مرة عام 1994 ولم يتم العمل به غير مرة، والبلدية قامت بتنفيذ العديد من المشاريع وقامت بشق وتعبيد بعض الطرق الفرعية في القرية، وهناك مجموعة من الطرق الزراعية بحاجة للتعبيد».

وحول الموارد الزراعية وأهم الزراعات في القرية يقول عضو الجمعية الفلاحية السيد "عارف عماد": «أهالي القرية يزرعون الأشجار المثمرة كالكرمة والتين والزيتون والكرز والتفاح والمشمش والجارنك واللوز، وجميع هذه الأشجار تنضج متأخرة عن بقية مناطق سورية بسبب برودة المناخ، وتلك الزراعات تتركز على ضفتي نهر الأعوج في وادي "بحيران"، وإلى الشرق من القرية حيث الزراعات البعلية، وفي المنطقة الجبلية، كما يزرع السكان الحبوب والبقوليات وبعض الخضار، ويعمل عدد قليل بتربية الأبقار والأغنام والماعز، ولايزالون يحتفظون باللباس الشعبي القديم ويتمسكون به كرمز عن عاداتهم وتقاليدهم، ويعيشون كأسرة واحدة في بيوت متلاصقة وقريب بعضها من بعض».

أهالي قرية بقعسم كسائر أهل القرى المجاورة لقريتهم يتشاركون مناسباتهم المفرحة والحزينة ويعيشون في مزيج رائع من التلاحم الشعبي والتآخي الديني، يقول الشاب "سليمان الكريدي": «أبناء القرية أناس طيبون مضيافون، أخذوا من الطبيعة الخلابة لقريتهم وينابيعها المتدفقة وثلوجها، جمال أرواحهم ونقاء قلوبهم وكرم أنفسهم، يقفون إلى جانب بعضهم بعضاً في السراء والضراء، فرحهم واحد وأحزانهم أيضاً واحدة، ويعيشون كأسرة يتقاسمون لقمة العيش، ويتميزون باندفاعهم نحو مساعدة الآخرين، وللمناسبات سمات تميز أهل القرية، فللأعراس الشعبية في القرية نكهة مختلفة تمتزج بنفحات من أصالة الماضي وعبق العادات الجميلة المستوحاة من جبل الشيخ، وذلك من حيث نمط العرس واللباس والمأكولات التي تقدم.

أما طبيعة القرية فتتشابه كثيراً مع باقي قرى المنطقة من حيث وفرة المياه، وهذا ما دفع العديد من أهلها المقيمين بعيداً عن أحضانها إلى العودة إليها لاستثمار أراضيها زراعياً والاصطياف فيها.

عائلة "الأطرش" هم أول من سكن القرية قديماً إلا أنهم تركوها بسبب برودتها الشديدة وقساوة العيش فيها، ولم يبق منهم شخص واحد، وفيها الآن عائلات: "صقر" و"عماد" و"الكريدي" و"الخطيب" و"مرشد"».

يذكر أن قرية "بقعسم" كغيرها من القرى في الريف السوري، لها ما يميزها من طبيعة خلابة وتضاريس ومناخ، إلا أن ما يجعلها تختلف عن غيرها وبشهادة جيرانها من القرى المتاخمة لها، أن ساكنها يكفيه فقط ثلاث ساعات من النوم، حتى ينهض بكامل نشاطه وقوته مغادراً منزله لالتقاط رزقه سواء في الحقل أم الوظيفة.