تلتف على دمشق كما يلتف السوار على المعصم، ارتبطت بتاريخ "دمشق" وأشعارها وأدبها، وصفت بأنها جنة من جنان الله الأربع في أرضه، تحتضن عدداً من بلدات وقرى صغيرة تحوّل بعضها إلى مدن تعج بالسكان والمنشآت الصناعية والغذائية التي تؤمن احتياجات دمشق من الخضار والفواكه واللحوم وغيرها من أساسيات الحياة اليومية.

تحيط الغوطة بالعاصمة "دمشق" من الشرق والغرب والجنوب، تتبع المدينة وريفها على شكل سهل ممتد، تقسم إلى قسمين كما يوضح الكاتب "نصر الدين البحرة": «"الغوطة الشرقية" تبدأ من مدينة دوما وتمتد نحو الشرق والجنوب محيطة بمدينة دمشق ببساط أخضر وكثافة أشجار الفواكه الشامية الشهيرة، تواصل الغوطة امتدادها إلى مناطق وقرى وبلدات أصبحت مدناً الآن، مثل "جرمانا" و"المليحة" و"عقربا" و"ببيلا" و"كفر بطنا" و"عربين"، إلى أن تلتقي بالغوطة الغربية لتكمل احتضان دمشق بالبساتين».

جنان الدنيا أربع: غُوطة دمشق، وصِغد سمرقند، وشعب بَوَّان، وجزيرة الأبلة، وقد رأيتها كلها فأفضلها "غوطة دمشق

يضيف "البحرة": «أما "الغوطة الغربية" فتمتد من مضيق ربوة دمشق بين الجبال ممتدة غرباً وجنوباً إلى مناطق، "المزة" و"كفرسوسة" و"داريا" و"صحنايا" و"الأشرفية"، ومن بعدها "السبينة". يتبع "الغوطة" مواقع وتلال أثرية، هي "تل الصالحية" يقع شرق دمشق على بعد 15 كيلومتراً وفيه آثار من العصر الحجري القديم، "تل أسود" يقع إلى الشرق من المطار يحتوي على آثار من العصر الحجري القديم والوسيط، "تل أبو سودة" على المرج، و"تل العظم" في حوش الريحانة، و"آثار جسرين" و"عين ترما"، بالإضافة إلى عدد من "المزارات"، مقام "السيدة زينب"، و"قبر دحية" في "المزة"، ومقام "ابراهيم الخليل" في "برزة"، وقبر "عبد الله بن سلام" في "سقبا"، وقبر "سعد بن عبادة الأنصاري" في "المليحة"».

طريق المليحة

ويشير "البحرة" إلى أن "الغوطة" تشتهر بجودة المياه التي تغذيها من خلال مجموعة من الأنهار الصغيرة وشبكة من قنوات الري، هي عبارة عن بساتين من شتى أنواع أشجار الفاكهة وبساط أخضر تمتد فيه كل أنواع الخضراوات ومن أشهر فواكه وثمار الغوطة، المشمش بأنواعه، والتوت، والخوخ، والدراق، والكرز، والجوز، وكذلك تشتهر بزراعة كافة أنواع الزهور».

ورد ذكر "غوطة دمشق" في كثير من الكتب والدراسات التاريخية والأثرية حيث تعد إحدى جنات الدنيا، كما اعتبرها القدماء من عجائب الدنيا، وجاء في "عجائب البلدان" بأنها «الكورة التي قصبتها دمشق، وهي كثيرة المياه، نضرة الأشجار، متجاوبة الأطيار، مؤنقة الأزهار، ملتفة الأغصان، خضرة الجنان، استدارتها ثمانية عشر ميلاً، كلها بساتين وقصور، تحيط بها جبال عالية من جميع جهاتها، ومياهها خارجة من تلك الجبال، وتمتد في الغوطة عدة أنهار، وهي أنزه بقاع الأرض وأحسنها».

الكاتب نصر الدين البحرة

هذا ما رصده أيضاً "القزويني" في "آثار البلاد وأخبار العباد": «قصبة بلاد الشام أي عاصمتها أو مدينتها الأساسية وجنة الأرض لما فيها من النضارة وحسن العمارة، ونزاهة الرقعة وسعة البقعة وكثرة المياه والأشجار ورخص الفواكه والثمار».

كما ورد في معجم البلدان لـ"ياقوت الحموي": «جنان الدنيا أربع: غُوطة دمشق، وصِغد سمرقند، وشعب بَوَّان، وجزيرة الأبلة، وقد رأيتها كلها فأفضلها "غوطة دمشق».

مناطق الغوطة

ولن يفوتنا أيضاً الحركة الاقتصادية التي تتميز بها غوطة دمشق حيث ساعد موقعها الجغرافي

ومناخها المعتدل الدافئ نسبياً على زراعة أنواع كثيرة من المحاصيل الزراعية والأشجار المثمرة الصيفية والشتوية. كما عرف فلاحو الغوطة بعض التقنيات والعمليات الزراعية منها التطعيم حيث قال "الميدومي" في كتابه "لطايف الأعاجيب": «كان بغوطة دمشق أشجار تحمل الواحدة منها أربعة أنواع من الفواكه كالمشمش والخوخ والتفاح والكمثرى. وكانت بعض الكرمة المطعمة تثمر بالعنب الأبيض والأسود والأحمر، وشجرة التوت الواحدة تطرح "التوت الأبيض والأسود". واستخدموا روث الحيوانات لرفع خصوبة التربة وأتقنوا معرفة أوقات الزرع وجنيه وأوقات نضج الثمار، وعرفوا الأنواع الأصيلة من الحيوانات فاهتموا بها مثل "الأبقار البلدية" و"الماعز الشامية"».

كلها زراعات ونشاطات ترافقت بوجود منشآت صناعية ترافقها كمصانع الكونسروة والمداجن والمباقر ومعاصر الزيتون ومنشآت لصناعة المنسوجات المصنعة من المحاصيل الزراعية الصناعية مثل الحرير والقطن وصناعة الورق. وكلها صناعات أثبتت جودتها العالية حيث يذكر الدكتور "صالح محمود وهبي" قسم "الجغرافية"- "جامعة دمشق" في كتابه "التطور الزراعي الصناعي في غوطة دمشق وأثره في الحياة الاقتصادية": «تميزت المنتجات الزراعية والحيوانية المصنعة والمجففة بكونها طبيعية وبخلوها من كل المنتجات الكيميائية التي تستعمل حالياً لحفظ الأغذية، إذ يؤكد علماء الصحة والتغذية العودة إلى الطرق القديمة لخلوها من المواد الكيميائية الضارة الحافظة والملونة وإمكان تصنيعها في المنازل كما تميزت منتجات العطور وماء الورد، والورق، والمنسوجات المصنعة في دمشق بالشهرة الواسعة والجودة العالية، ما جعلها تتصدر قائمة الصادرات الصناعية الزراعية، وتحقق مردوداً عالياً».

صناعات عديدة تشتهر بها غوطة دمشق تمد سكان مدينة دمشق وريفها بما يحتاجون من متطلبات الحياة اليومية، إضافة إلى وجود العديد من الاستثمارات التحويلية التي تجري مناقشة نقلها من المناطق السكنية باتجاه المدن الصناعية كمدينة عدرا الصناعية.