يقع سوق القباقبية بموازاة الحائط الجنوبي للجامع الأموي ... يأتيه القادم من سوق الحميدية، والمتجه إلى النوفرة (أشهر مقاهي دمشق القديمة)، وأحياء العمارة، والقيمرية ...

سوق القباقبية صغير نسبياً مقارنةً بأسواق دمشق الأخرى... كان مسقوفاً، ومؤلفاً من صفين متقابلين من الدكاكين يفصل بينهما ممرٌ ضيق إلى أن تم هدم المحلات الملتصقة بالحائط القبلي للجامع الأموي ( لغرض إظهار جماليته و المعالم الأثرية الهامة التي يحملها ) .

يعود السوق إلى العهد المملوكي، وكان متخصصاً بصنع القباقيب، والصناديق المطعمة بالصدف... لم يبق من هذا التخصص سوى الاسم باستثناء بعض القباقيب ذات الوظيفة التذكارية التي تعرض هنا وهناك، إضافة إلى الصناديق المشغولة بتقنية الموزاييك ( تقنية تحاكي تطعيم الصدف )، ومازلت تجد في هذا السوق كراسي القش المنخفضة ، وقوالب المعمول الخشبية (نوع من الحلويات الدمشقية)، و ستائر الخرز، و ماعدا ذلك استغني عن وجوده بما يدل عليه على سبيل الذكرى كمجسمات ٍ صغيرة .

قهوة القباقبية

بضائع السوق

يبدو سوق القباقبية اليوم غنياً بالمفردات ... كما لو كان كل حانوتٍ من حوانيته متحفاً صغيراً

يختزل تاريخ دمشق، أو يقدم للسائح على الأقل مقتطفاً منه ... نرى ذلك بوضوح في محلات الانتيكات، والسجاد، والمشغولات الفضية، ونماذج القاشاني، والمخطوطات النادرة، ومجموعات العملات القديمة لاسيما السورية منها ( أحد الباعة عرض أمامي مجموعةً مذهلةً من الأوراق النقدية السورية من مختلف الفئات أقدمها من فئة الخمس قروش تعود إلى العام1919 م إلا أنه منعني من التصوير ).

أبو محي الدين

ما نجده حديثاً في هذا السوق المحلات المتخصصة بعرض لوحات اسشراقية، وأخرى تعرف بالدمشقيات (تصور حارات دمشق القديمة و ملامح الحياة فيها)، وهي كلها من رسم فنانين سوريين معروفين .

الرسم على الرمل

أحد الفنون المستحدثة في سوق القباقبية: فن الرسم بالرمل الملون، وكتابة الأسماء على حبات الأرز، ويلقى هذا الفن رواجاً كبيراً لدى السياح،والعشاق الذين يقصدون السوق لرسم ذكرى في قارورة، أو كتابة اسم الحبيب على حبة أرز يضمها في قلادة، أو يعلقها في ميدالية .

يقول عبد الباسط محمود : إنه يحضر الرمل النبكي( نسبة إلى مدينة النبك شمالي دمشق )، ويقوم بصبغه بالألوان المختلفة استعداداً لتكوين لوحاتٍ مختلفة في قوارير صغيرةٍ، أو كبيرةٍ حسب الطلب ...الأداة الرئيسية للرسم بالرمل قمع حديدي صغير ذي رأس مدبب يأخذ دور ريشة الفنان... كذلك يفعل شادي (ابن الخامسة والعشرين ) الذي تفرغ لهذه المهنة في مخزن للأنتيكات ، و بين الحين و الآخر يحتضن ( غيتاره) ليمارس هوايته في العزف كأسلوبٍ للترويح عن النفس و الترويج أيضاً .

يتمتع الباعة في سوق القباقبية باللطافة و القدرة الراقية على اجتذاب السياح ... معظمهم من الشباب الذين يتقنون أكثر من لغة ( كالإنكليزية، والفرنسية، والإسبانية، والفارسية)، وبعضهم على الأقل يمتلكون من مفرداتها ما يمكنهم من التعامل مع السياح بشكلٍ جيد .

مقهى القباقبية

في آخر سوق القباقبية وبموازاة الجدار الشرقي للجامع الأموي يوجد مقهى ( القباقبية) الذي تعارف الناس على تسميته بمقهى (خبيني ): لأنه يختفي مابين آخر سوق القباقبية و القوس المؤدي إلى منطقة النوفرة... يقدم الشاي الخمير، والقهوة التركية، والزهورات الشامية، والنرجيلة، ويتمتع بكثافةٍ جديدة من الزوار على مدار اليوم ...معظمهم يفضلون الجلوس على مصطبته الخارجية للتمتع برؤية المارة ... و لمن لا يحبذ المشاريب الدمشقية التقليدية توجد ماكينة لصنع (الكابوتشينو والاسبرسو) في أحد محلات السوق ... هكذا تتجاور الحداثة مع التاريخ في كل ملامح الحياة الدمشقية المعاصرة .

ولكن أين تصنع القباقيب اليوم ؟

بعد الخروج من سوق القباقبية عّرجت على الزقاق المؤدي إلى سوق الحرير، والمتفرع من سوق الصاغة لأقابل أبو بشير ( في الخمسين من عمره) يحتل حيزاً صغيراً من السوق لا يتعدى حجم المقعد ... يقوم بشد الجلد على القطعة الخشبية للقبقاب مستخدماً المطرقة،

والمسامير الصغيرة ... يعرض إلى جانبه، وفي محيط طاولته الصغيرة مجموعة ً جميلةً من القباقيب، وعندما سألته عن و جود ورشاتٍ متخصصةٍ بهذه الحرفة دلّني على ورشة على بعد خطوات في خان السفرجلاني يملكها حمزة مخللاتي ( أبو محي الدين )، وهو رجل طاعنٌ في السن استقبلني ببشاشةٍ كبيرة، وتحدث لي عن هموم مهنته وشجونها، وأنها آخذة بالانقراض فهو لا يضمن أن يعمل أولاده في هذه المهنة المتوارثة عن الأجداد . تعود ورشته إلى عام 1920م، وهي من الورش النادرة المتخصصة بصناعة القباقيب، و يمكن اعتبارها متحفاً متخصصاًَ بهذه المهنة... يقول (أبو محي الدين) : إن مهنته شهدت رواجاً كبيراً في ثلاثينيات القرن الماضي حيث كانت القباقيب الدمشقية تصدر إلى مختلف أرجاء بلاد الشام، ومنها ما يطّعم بالصدف، والأحجار الكريمة، وبقي الحال كذلك حتى عام 1965م حيث بدأت الخامات البلاستيكية تؤثر على هذه المهنة، ورواجها .

قبقاب غوّار

مع كلمات أبو محي الدين أنهينا جولتنا التي بدأت في سوق القباقبية، وانتهت في آخر ورشةٍ لصنع القباقيب التقليدية بدمشق القديمة لتبقى في مسامعنا رنة قبقاب (غوار الطوشة) التي مازالت تعيش في ذاكرتنا كما دمشق وتراثها الخالد ...