جمهور المسرح في دمشق كان على موعدٍ غير اعتيادي في تياترو، حيث أتيح له مشاهدة عرضٍ غير تقليدي بالمعنى الدقيق للكلمة، و ذلك عندما تستبدل خشبة المسرح بفضاءٍ مغلق يحلق فيه المشاهدون حول الممثلين دون مسافةٍ تذكر، يتداخلون معاً في مساحةٍ لا تتعدى الغرفة، و

يقتربون من همومٍ حقيقية وقصصٍ لممثلين عاشوا أحداثاً مؤلمة غيّرت مسار حياتهم تجرّعوا مرارتها وأرهقتهم نتائجها، و قد تسنّت لهم الفرصة لأول مرّة لصياغة تجاربهم على طريقتهم ولجعلها عرضاً مسرحياً يتجاوز حدود المتعة للغوص في دهاليز واقعٍ معتم أدّى بأبطال المسرحية إلى سجنٍ يكتسي ثوب إصلاحية أو معهدٍ لإعادة تأهيل الأحداث الجانحين.

يحدث في كل المجتمعات أن يجنح أطفال نتيجة ظروف معيّنة إلى الجريمة على تنوع درجات الإجرام و يعاقب الأطفال الجانحون بتقييد حريّتهم و تحديد إقامتهم في معهدٍ من أجل إصلاح سلوكهم لفترةٍ يرتئيها القاضي بحسبِ ذنب كلٍ منهم.. كل ذلك مألوف، لكن من غير المألوف أن يتّم الالتفات إلى هؤلاء الأحداث ليس بوصفهم جانحين فقط يعانون من نظرةٍ مجتمعية دونيّة بل باعتبارهم أبطال قصصٍ يقدّمونها على طريقتهم و بما توافر لديهم من طاقاتٍ في مسرحٍ تفاعلي.

فكرة المسرح التفاعلي تعتمد على تقديم عرضٍ مسرحي مرتجل استناداً لقصصٍ حقيقية ضمن إطارٍ عام للفكرة، وتتيح للمشاهد التدخل في مجريات المسرحية أثناء تقديمها، أي أنها تلغي الحائط الرابع الذي يفترض الممثل أنه يفصله عن المشاهدين و بالتالي يخرج المسرح من حدود الخشبة إلى فضاء الحياة الحقيقة.

وفي سوريّة تشرف الدكتورة ماري الياس من المعهد العالي للفنون المسرحية على تأسيس برنامج المسرح التفاعلي و قد تعاونت مع فرقة (استوديو) على تنفيذ هذا البرنامج مع الأطفال، وبعد عروضٍ عديدة في الريف السوري تطورّت الفكرة باقتراحٍ من منظمة ( موفيموندو) الايطالية لتشمل لأول مرّة تنفيذ ورشة عمل للتمثيل مع نزلاء معهد خالد بن الوليد لتأهيل وإصلاح الأحداث الجانحين بقدسيا، أنتجت هذه الورشة عرضاً مسرحياً كان الأول من نوعه قدّمه ستّة من الأحداث خارج حدود الإصلاحيّة في معهد (تياترو) لفنون الأداء و بحضور جمهورٍ لا يمت للعالم الحقيقي للمثلين بصلة أو للبيئة الاجتماعية التي أودت بهم إلى الجنوح . ليكون العرض(سماح) فرصةً للتوعية وخلق جسورٍ للتواصل بين هؤلاء الشباب والمجتمع علّهم يفلحون في تغيير الفكرة السائدة عنهم كأفراد غير صالحين اجتماعياً أو مجرمين لا يمكن إصلاحهم. عن العرض قال المخرج عمر أبو سعدة: كانت الفكرة لمنظمة ( موفيموندو) الإيطالية و هي التي تعهدّت لنا بالحصول على كل الموافقات اللازمة لذلك، وبعد أن حصلنا على الموافقة بدأنا بالعمل -كفرقة استوديو- مع ستّين طفلاً تمّ اختبار إمكاناتهم، و باستبعاد من لا تتوفر لديه القدرة أو الرغبة حصلنا على ستّةٍ قادرين على تقديم عرض مسرحي ، طلبنا منهم الارتجال على قصصهم و مشاكلهم و مشاعرهم و أفكارهم الخاصّة، ومن ارتجالهم ركبّنا نصّا مسرحياً تدربّنا عليه وصولاً إلى العرض الذي لا توجد مقولةٌ أساسية له بقدر ما يراد منه أن يعبّر المشاركون عن أنفسهم بطريقةٍ مسرحية. لدينا ستّة قصص منها ماهو حقيقي تماما و منها ماهو مستوحى من قصصٍ أخرى لنزلاءٍ في الإصلاحية و الإطار العام هو سهرة في مهجع أو جلسة مسرحيةً. التجربة مع هؤلاء الأطفال لم تكن صعبة بقدر ما كانت ممتعة أعطينا لهم من خلالها فرصةً للتعبير عن أنفسهم واستعادة الثقة و إعادة الطرح اجتماعيا،بحيث يكون كل فردٍ منهم قادراً على العيش وسط مجموعةٍ اجتماعية حقيقية يحترم قوانينها و يتعامل معها و يعرف كيف يطالب بحقوقه , وأن يغيّر وجهة نظر الآخرين عنه خاصةّ أن هناك صورة نمطية غير دقيقة عن هؤلاء الأحداث. شهرين و نصف من التحضير أنتجت هذا العرض، النتيجة مرضية جداً بالنسبة لنا و أرجو أن نكون قد حقّقنا أهدافنا منها.

كانت المسرحية أقرب إلى جلسةٍ عائلية للمصارحة عبّر فيها الممثلون عن مخاوفهم وهواجسهم و تداعت ذكرياتهم أمام الحضور الذي بدا متعاطفاً معهم، شرحوا من خلال تلك الذكريات الظروف التي أودت بهم إلى الجنوح و عبّروا عن خوفهم من لحظة الخروج إلى العالم الحقيقي بعد انتهاء مدّة عقوبتهم-إن صحّ التعبير- ولم تمنع النظرة النمطية السائدة في مجتمعنا عن الأحداث ، لم تمنع العديد من الحضور عن الوقوف مع المشاركين بعد انتهاء العرض ومصافحتهم وشكرهم و إبداء التعاطف معهم و إعلان النوايا الطيبة و الاستعداد للمساعدة. محمّد العطّار من فرقة ( استوديو) أبدى ارتياحه لنجاح العرض و قال أن المشاركين فيه بدوا أكثر ثقةً بأنفسهم و قدرةً على التواصل مع الآخرين بعد أربعة عروض قدّموها في ( تياترو) وهم يستعدّون للأصعب وهو تقديم هذا العرض أمام الأهالي في مقر معهد خالد بن الوليد بقدسيا. من ناحية أخرى أعرب أحمد عنتابلي أحد طلاّب التمثيل في معهد تياترو عن إعجابه الشديد بقدرة الممثلين رغم تواضع إمكاناتهم و جرأتهم لخوض تجربة المسرح التفاعلي التي يتهيّب منها العديد من الممثلون المحترفون أو على الأقل طلاّب التمثيل.

ختاماً عبّر المشاركون في العرض لeSyria عن سعادتهم بهذه التجربة ومفاجئتهم بتعاطف الجمهور معهم ( اعتقدنا أنّ أحداً لن يحضر عرضنا و إن حضروا لن يصدّقونا أو سيخافون منّا، لكنّ ما حدث هو عكس ذلك تماماً). نعتذر من القرآء عن إيراد أسماء المشاركين أو التقاط صورٍ لهم أو للعرض حرصاً على الخصوصيّة.

( سماح) عرض مسرحي برعاية وزارة الشؤون الاجتماعيّة والعمل السوريّة وبتمويل من منظمة ( موفيموندو) الايطالية، و السفارتين البريطانية والهولندّية بسوريّة، و المجلس الثقافي البريطاني، والوكالة السويسريّة للتعاون والتنمية. وهو عمل ارتجال جماعي من إخراج : عمر أبو سعدة، تمثيل مجموعة من نزلاء معهد خالد بن الوليد للأحداث، دراما توج: محمد العطّار الحسيني، تدريب الممثلين: جمال سلّوم، سينوغراف: باسل السعدي، ساعد في العمل: كنان العشعوش.

( موفيموندو) هي منظّمة إيطالية غير حكوميّة تأسست عام1971. تعمل في أمريكا اللاتينية- أفريقيا- شرق أوربا- الشرق الأقصى و البلدان المتوسطيّة.

منذ عام 1998 تنفذ موفيموندو عدّة مشاريع في سوريّة في مجالات البيئة والصحة العامّة و النفسيّة و الاجتماعيّة.

ضمن برنامجها في مجال رعاية الأحداث قامت موفيموندو بتطوير مشروع الحالي إعادة تأهيل الأحداث الجانحين و توعية المجتمع من خلال المسرح التفاعلي بالإضافة إلى نشاطات أخرى تهدف إلى تقوية الصحّة النفسيّة الاجتماعيّة لدى الأحداث النزلاء في معاهد قدسيّا.

من الناحية النفسيّة الاجتماعية قامت العالمة النفسيّة الدكتورة (باتريسيا جيفوني) بمتابعة المشروع من خلال عدّة جلسات استشاريّة.

فرقة مسرح( استوديو): تأسست من قبل مجموعة من خريجي المعهد العالي للفنون المسرحيّة عام 2004. في عام 2005 بدأت الفرقة عملها بمشروع المسرح التفاعلي في الريف السوري، و بإشراف الدكتورة ماري الياس نفّذت الفرقة مشروع المسرح التفاعلي مع الأطفال.