التطرف والضياع وأحلام الحرية، اليمين واليسار، السجن و السجان، المسجد وغرفة التحقيق.

خمسون عاماً على استقلال تونس(1956-2006) استعادها المخرج فاضل الجعايبي، على خشبة مسرح الدراما- دار الأسد للثقافة و الفنون.

أضحكنا الجعايبي و أبكانا على مدى ساعتين و نصف ، من عرض كان متكاملاً إلى أبعد مدى، تضافرت فيه باقتدار جهود ممثلي فرقة (فاميليا برودكشن)،مع نص جليلة بكّار إحدى ممثلات الفرقة و أبطال المسرحية الأساسيين، ولا نتوقف فقط عند النص و الإخراج و التمثيل، بل إعجابنا يمتد إلى الصوت و الإضاءة، والسينوغرافيا و الرقص، في عرض استحق عن جدارة أن تستضيفه احتفالية دمشق عاصمة الثقافة العربية 2008 ضمن العروض المنتقاة لفنون الأداء، بعد أن استضافه مسرح الأوديون في باريس حيث أُنتج العرض وقُدٍّمَ لأول مرة.

حكاية العرض:

(جودة) شخصٌ غائصٌ في البياض، لم ندرك ملامح وجهها أبداً، اتخذت لنفسها مكاناً ما في فضاءٍ مجهول يحيط بالشخصيات الأخرى، هي جسدٌ مجهول الملامح لأنثى، لم نعرف عنها سوى أنها أستاذة في معهد، ذات صبغةٍ دينية، فجرت نفسها في ساحة المدرسة 11-11–2005 ، قبل أيامٍ من حدثٍ عالمي استعدت تونس لاستضافته بكل إمكانياتها ( قمة المعلوماتية 2005).

مع أشلاء جسدها المتناثرة فجرت (جودة) الكثير من التساؤلات حول حياة التونسيين خلال خمسين عاماً من استقلال بلادهم، ولأنها فجرت نفسها دون سابق إنذار و لم تستطع السلطات محاكمتها ، يساق إلى التحقيق كل من له علاقة بها: تلامذتها... أصدقاؤها... جيرانها...

(أمل)كانت إحدى تلامذتها(أي جودة) بنت عائلةٍ لها تاريخ عريق في تبني الأفكار الماركسية التي لقيت رواجاً كبيراً في عالمنا العربي خلال القرن الماضي, أبوها (يوسف) أحد أكثر اليساريين تطرفاً للفكر الماركسي.

سبق و أن اعتقلت السلطات التونسية (أمل) في العام 2003، على خلفية توزيعها لمناشير في الجامعة تناهض الاحتلال الأميركي للعراق، و تحث الشباب للتحرك دفاعاً عنه، مُنعت (أمل) من إكمال دراستها في الجامعات التونسية، ومرت بمرحلة إحباطٍ كبيرة، وعانت من الاكتئاب، فأرسلها أهلها إلى فرنسا لتتم دراستها هناك، وفي باريس عايشت التمييز العنصري الذي يواجهه المغاربة في فرنسا، التقت (بسيف الدين) الذي تحوَل بقدرة قادر من ماركسي إلى أصولي إسلامي، وكان له دور كبير في تغيير مجرى حياتها، ارتدت الحجاب و أعلنت التزامها الديني، أخبرت أهلها بذلك و أرسلت لهم صورتها بالحجاب، الأمر الذي أصاب والدها بحزنٍ كبير إلى حد الصدمة، دخل الأب في صمت كبير و أصيب بسرطان الحنجرة.

عادت (أمل) إلى تونس فجأة، اعتقلتها السلطات الأمنية فور وصولها إلى المطار، و كانت متابعةً لتحركاتها بشكلٍ دقيق في باريس، حققت معها بشكلٍ مهين، و احتجزتها لفترة، ولأنها لم تستطع أن تتهمها بشيء، أفرجت عنها...

جاءت (أمل) إلى منزل أهلها، الأم استغربت هيئتها الجديدة، و الأب رفضها رفضاً قاطعاً، عندها قررت ترك بيت أهلها لتعيش مع صديقاتها اللاتي تعرفت عليهن في باريس، و هناك عرفت (جودة) مدرّسةً لا أكثر، و ربما مرشدةً في حياة جديدةٍ على أرض الوطن.

(مريم) زوجة (يوسف) ورفيقة نضاله وأم (أمل)، وقعت في حيرةٍ كبيرة أمام تطرف زوجها و ابنتها على حدٍ سواء، ذلك التطرف كان في منحيين متباعدين لا يلتقيان أبداً: أقصى اليمين وأقصى اليسار، لم تستطع (مريم) فعل شيء، لا استطاعت إخراج زوجها من حزنه ، ولا ثني ابنتها عن قرارها. فما كان منها إلا أن أطلقت صرختها : نرفض التطرف بكلّ أشكاله لليمين أو لليسار.

مجتمع (أمل) الجديد لفه الغموض والتزمّتُ والحيرة، والأطياف الغائمة المتسلّلة من ماضٍ قريبٍ أو بعيدٍ يصعب تناسيه، حيرة تدفع للدوران في حلقاتٍ مفرغةٍ على وقع الأصوات الآتية من البعيد أو أعماق الذات، ولأن والديها يساريين واجهت( أمل ) الريبة أيضاً في مجتمعها الجديد .

من أغرب أحداث الحكاية المسرحية لقاء ( مريم) ب( قدور)، التقته ذات ليلة عندما كانت خارجةً من بار، زوجها في المستشفى وابنتها في عالمٍ آخر.(قدور) هو الجلاد الذي توّلى تعذيب زوجها (يوسف) في المعتقل بسبب انتمائه اليساري قبل زمنٍ طويل ربما من عمر استقلال تونس. تغيرت هيئة( قدور) اليوم، تكسرت أسنانه التي طالما نهشت جسد (يوسف)، و ارتعشت يديه اللتين استخدمها بوحشيةٍ في ضرب المعتقلين وتكسير أطرافهم بمسطرته الحديدية، بعد إلحاح شديد لدرجة الحصار تذكّر (قدور):(يوسف و مريم)، بجرأة الواثق الذي لا يهاب الجلاد و كمن يريد تصفية حسابٍ قديم، وقفت (مريم) في وجه مسطرة (قدور) الحديدية، و كأنها تريد أن تقول له عبر صمتها: لقد تغّير الزمن، أنت اليوم لا شيء، وها أنا أقف في وجهك دون خوف...

ولكن هل تغير الزمن فعلاً؟ مشاهد التحقيق والتعذيب التي توالت في المسرحية، سواءاً على خلفية حدث التفجير الافتراضي، أو كمشاهد استعادتها ذاكرة (مريم)، لا توحي بتغيير جوهري، ربما تغير الشكل فقط، ربما الأشخاص و الملابس و الأسماء، لكن الواقع من حيث الجوهر لم يتغير أبداً. عائلة بأكملها كان لها زيارات متكررة لفروع التحقيق على مدى أعوام و أعوام، رغم تغير الأسباب و تبدل الانتماءات.

(مريم ) أضحت اليوم صديقةً لـ(قدور)،و هاهي تأخذه لزيارة زوجها في المستشفى في وقت كان فيه (يوسف) يقرأ مذكراته عن التعذيب الذي لقيه على يد (قدور). لم يستطع (يوسف) النسيان، رمى الورود المسروقة التي أهداها إليه - وحش قفصه السابق- في وجهه، وجه (قدور) الذي لم يحتمل سماع ما كتبه عنه (يوسف) في مذكراته، صرخ في وجه (مريم): لو أعاد الزمن نفسه لعذّبت زوجك بوحشيةٍ أكبر، لانتزعت روحه من جسده، كنت أؤدي واجبي، أدافع عن وطني، في مواجهة الأفكار المدمّرة لزوجك و أمثاله...

التحقيق في عملية( جودة ) الانتحارية لم يصل إلى نتيجةٍ ملموسة، اعتقل العديد من الأشخاص، ومنهم (أمل)التي واجهت عقوبة الحبس لستةِ و عشرين عاماً، مع غرامةٍ ماليةٍ باهظة، على أساس قانون مكافحة الإرهاب: المصطلح الجديد الذي غزى العالم بعد تفجيرات نيويورك 11 أيلول 2001 .

لم يحظى المعتقلون بمحاكمة عادلة، قذفوا في السجن على أساس الشك، الشك فقط. انتهت الحكاية مع تنويهٍ بسيط في نهاية المسرحية: أن (جودة) أخذت على عاتقها تنفيذ العملية الانتحارية، لمنع أحد تلامذتها المراهقين، من تنفيذ عمليةٍ أكثر خطورة، بالتزامن مع قمة تونس للمعلوماتية 2005.

أسدلت الستارة لتتحرك في أذهاننا العديد من التساؤلات: لماذا الإرهاب؟ لماذا التطرف؟ لماذا نواجه التطرف بالتطرف؟

لقد كان العرض المسرحي دعوة غير معلنة للمصالحة، وقبول الآخر مهما كان انتماؤه، والوطنية المرتكزة على وضع مصلحة الوطن فوق مصلحة الأشخاص، و مراعاة حق الجميع في الحياة و الحرية.

أصداء العرض:

أمجد طعمة( إعلامي): العرض جميل وجريء جداً، ويدفعنا للتساؤل ماذا بقي في جعبة الجعايبي، ولم يتحدث عنه؟!... السينوغرافيا جميلة جداً وكذلك الإضاءة، و هذا ليس غريباً على مسرح فاضل الجعايبي.

باسم عيسى( ممثل): العرض في غاية الأهمية، حيوي وذي إيقاع متماسك، اعتمد بشكل موفقٍ جداً، على تقنية الروي أو السرد، لينقلنا من حكايةٍ إلى أخرى، و يكشف عن مكنونات الشخصيات.

انطلق من فكرتي التطرف والإرهاب، والتحول الذي طرأ على حياة (أمل)، ونقلها من سياقٍ إلى آخر، ليحلل ضمن ذلك الإطار، التحولات التي طرأت على المجتمع التونسي، خلال خمسين سنةٍ من الاستقلال، ومن وجهات نظرٍ مختلفة.

النص ذكي، والممثلين متفوقين في أداءهم،اشتغلوا مع المخرج على تفاصيل دقيقة جداً، تتعلق باستحضار الشخصيات التي مثلوها، سواءاً على الصعيد الداخلي أو الخارجي.

جواد الشكره جي ( ممثل عراقي): المسرح الذي يشتغل عليه فاضل الجعايبي منذ عام 1975 إلى يومنا هذا: من أهم المسارح التي رأيتها في حياتي عموماً ، شاهدت له الكثير من العروض، و يمكنني القول: أنه في كل عرض، يتفوق على نفسه مقارنةً بالعرض الذي سبقه، في عرضه (خمسون) استطاع الجعايبي أن يلخص لنا الصراع الفكري و السياسي، و الاجتماعي و الديني في تونس، لنخرج بحصيلةٍ مفادها: أننا لا نستطيع أن ندين أحد .

ربما تكون شهادتي مجروحة في فاضل الجعايبي لأنني أحب أعماله كثيراًً، و يمكنني أن أصنفه كواحد من أهم المخرجين في العالم، و ليس الوطن العربي فقط. وبرأيي لا يقل عمل الجعايبي إمكانية عن أعمال بيتر بروك(من أصحاب المدارس في المسرح العالمي)،لأنني أرى تحديداً في خمسون فضاءاً مسرحياً مفتوحاً، استطاع أن يتلاعب بالصوت والإضاءة، الموسيقى و الجسد المعبر ليعطينا لغة مسرحية كاملة ، الصمت كان بليغاً و معبراً ، كذلك الحوار كان واضحاً، رغم أن اللهجة التونسية –ربما- يشوبها حالة من اللا فهم عند المتلقي المشرقي.

على العموم كنت فرحاً اليوم لرؤيتي عملاً ملحمياً بهذا المستوى... تحية من القلب للفاضل الجعايبي و جليلة البكار و باقي أعضاء الفرقة, وتحية كبيرة لدار الأوبرا، ولسورية الرائعة التي استضافت هذا العرض المهم، على مسرحٍ لا يقل أهمية عن مسارح عالمية أخرى،و الشكر الجزيل لكل من اجتهد و يجتهد لتقديم برنامجٍ حافل بالعروض الهامة، لمناسبة اختيار دمشق عاصمة الثقافة العربية 2008.

قبل العرض:

قبل حوالي الساعة من العرض التقينا بكلٍ من الأستاذ حبيب بلهادي( مدير فرقة فاميليا برودكشن و مدير الإنتاج في مسرحية خمسون)، و د. أسامة غنم (أستاذ في المعهد العالي للفنون المسرحية، ومبرمج أنشطة المسرح، و فنون الأداء في احتفالية دمشق عاصمة الثقافة العربية 2008).

حبيب بلهادي: تأسست فرقة فاميليا في العام 1992، وسميت باسم أول عمل مسرحي قدمته، ثم توالت أعمالها : عشاق المقهى المهجور التي قدمت في دمشق عام 1995 على مسرح الحمراء، البحث عن عايده المهداة للشعب الفلسطيني بمناسبة الذكرى الخمسين للنكبة، ثم كانت مسرحية سهرة خاصة و جنون، وهذه مسرحيتنا الأخيرة خمسون التي بدأنا عروضها على مسرح الأوديون في باريس حزيران 2006،

اشتقنا للجمهور السوي كثيراً، وجودنا في سورية يشعرنا بسعادةٍ غامرة، خاصة عندما نقدم عملاً بأهمية (خمسون) على أحد مسارح هذا الصرح الراقي: دار الأٍسد للثقافة والفنون، نحن نحسدكم على دار الأوبرا التي لم نجد لها مثيلاً في العالم العربي.

نتمنى أن نرى أعمالاً مسرحية سورية أكثر، خاصة أن لديكم نقاط مضيئة في المسرح السوري، مثل أعمال: جهاد سعد- ماهر صليبي- عبد المنعم عمايري، وغيرهم من مبدعي المسرح السوري... شكراً لكم و نتمنى أن نتواصل أكثر.

د أسامة غنم : الجعايبي من أهم الأسماء في المسرح العربي المعاصر، لما يزيد على خمسة وعشرين عاماً. (خمسون) هو بالأصل من إنتاج مسرح الأوديون- مسرح أوربا: واحد من المسارح القومية الخمسة على مستوى فرنسا ككل، والفاضل الجعايبي أول مخرج عربي يصل إلى هذه المكانة، أن ينتقيه واحد من أهم مسارح العالم منذ مائة عام، ليقدم عرضاً باللغة العربية، عن المجتمع العربي-تونس نموذجاً-وبجهود تونسية بالكامل(فرقة فاميليا برودكشن)، ومثّل ذلك ذروة النضج الفني في المسيرة الطويلة للجعايبي وفرقته. العرض(خمسون):مهم بحد ذاته ،ويفرض نفسه بكل المعايير الفنية والإنسانية الممكنة، يتناول المجتمع التونسي و العربي بشكل عام في اللحظة الراهنة، عبر تفاصيله الأكثر إشكاليةً و عنفا ًوسخونة : المد الأصولي، يتحدث عن ذلك المد وعلاقتة بالمستوى السياسي، و يعود بتلك المشكلة إلى جذورها الإجتماعية و الاقتصادية، و بالتالي يقدم الجعايبي عرضاً سياسياً و راهناً بامتياز ، و لا تكمن قيمته في ذلك فقط، و إنما في الشكل الفني المقترح للعرض ،على صعيد الإخراج و الفضاء المسرحي ،و التمثيل و السينوغرافيا، و النص الذي قدمته السيدة جليلة البكار زوجة المخرج، و الممثلة الأساسية في العرض، و التي تعتبر ركناً أساسياً في تجربة الجعايبي ككل. كل ذلك دفعنا لاختيار (خمسون) كواحدٍ من أهم العروض المنتقاة على المستوى العربي، ضمن فعاليات دمشق عاصمة الثقافة العربية2008، و بالتعاون مع دار الأسد للثقافة و الفنون التي تتعاون معنا بشكلٍ ممتاز،و نمثل معًا فريقاً واحداً لتقديم مثل هذا العرض بأفضل الشروط التقنية الممكنة من حيث الصوت و الإضاءة و الحضور. اختتم حديثي بالقول: فرح حقيقي لنا أن نرى الجعايبي و فرقته في سورية، و نتمنى أن نستفيد منه و من فرقته أكثر، لتطوير تجربتنا في المعهد العالي للفنون المسرحية، و التجارب المسرحية السورية بشكلٍ عام.

خمسون: نص جليلة بكار، إخراج فاضل الجعايبي.سيناريو و دراماتوجيا: بكّار، و الجعايبي. سينوغرافيا و أزياء : قيس رستم. كوريغرافيا و صوت : نوال اسكندراني. موسيقى: بيفيو و آلدو دي سكالزي. تصميم الإضاءة: فاضل الجعايبي و إيفان لاباس. الممثلون: جليلة بكّار، فاطمة بن سعيدان، جمال مدني، معتز مرابط، بسمة العوشي، لبنى مليكا، وفاء طبوبي، رضا حمدي، انتظار ميري، خالد بوزيد، و حسني عكرمي. الراوي : فتحي عكّاري.

مساعد المخرج: سامي ناصري، مشرف الإضاءة: رضا عربي، مشرف الصوت: صلاح شرقاوي، مشرف ملابس: جليلة مدني، مساعد إنتاج : سرور كرونا.