الجلاء… 17نيسان من عام 1946 جلا آخر جندي فرنسي عن أرض سورية بعد احتلالٍ، دام قرابة خمسة وعشرين عاما.

عيد الجلاء: هو العيد الوطني للجمهورية العربية السورية،و الذي يصادف هذا العام ذكراه الثانية والستين، جمعية أصدقاء دمشق استبقت هذه المناسبة بإقامة ندوة في مكتبة الأسد بعنوان الجلاء.

الندوة لم تكن ندوة بالمفهوم التقليدي( أسئلة… إجابات…) وإنما كانت أقرب إلى حديث الذكريات… بدأها الأستاذ صلاح الدين السفرجلاني، بالحديث عن محطات هامة في كفاح الشعب السوري لنيل الاستقلال، ( كشاهد على العصر عايش تلك الحقبة)… ثم عقب الأستاذ نصر الدين البحرة، على حديثه بطريقته العذبة في سرد الذكريات… و بين حديث الأستاذين، ألقى الأستاذ عصام الحلبي قصائد شعرية، نظمت لمناسبة الجلاء، قبل اثنين و ستين عاماً.

الأستاذ صلاح الدين السفرجلاني : تحدث عن معركة ميسلون التي قادها يوسف العظمة (وزير الحربية آنذاك للدفاع عن دمشق، مع خيرة قادة جيشه:عارف التوام، و شريف الحجار، و رضا الصبان، وصدقي الكيلاني، و تحسين الفقير، و حسن الهندي، و توفيق العاقل، و شوكت العائدي … المعركة كانت غير متكافئة بين جيش فرنسي(خرج من الحرب العالمية الأولى منتصراً، و أتى إلى دمشق محتلاً ، بأحدث تجهيز عسكري…)، والجيش السوري (الفتي المحدود العدد، والمتواضع التسليح )…إلا أنه أدى و اجبه الوطني، و لم يسمح للفرنسين، أن يدخلوا دمشق هكذا دون مقاومة…

وقارن بين يوم 24 تموز 1920 يوم دخول الجنرال غورو( قائد القوات الفرنسية) إلى دمشق مغروراً… مزهواً باحتلالها، و تجول فيها بعربته المكشوفة منتفخ الأوداج … قارن بين ذلك اليوم، و يوم الجلاء 17 نيسان 1946، عندما خرج آخر جندي فرنسي من دمشق، مقهوراً… مرتعشاً… قابعاً في عربته المصفحة ،وكأنه يقول: ليتك يا غورو لم تقل أمام قبر صلاح الدين: ها قد عدنا يا صلاح الدين … لأننا خرجنا اليوم من دمشق أذلاء… مقهورين… كما رصد الأستاذ السفرجلاني، أهم محطات الكفاح الوطني السوري، ضد الاحتلال الفرنسي،و الذي لم يتوقف، طيلة وجود القوات الفرنسية على أرض سورية، فوجودهم فيها لم يكن مستقراً في يومٍ من الأيام …

قي 25 تموز 1920(اليوم الثاني بعد استشهاد يوسف العظمة في معركة ميسلون)، نادى مفتي الشمال السوري بالجهاد فكانت ثورة إبراهيم هنانو في الشمال السوري،و التي نسقت مع ثورة الشيخ صالح العلي في جبال اللاذقية، وكبدت كلا الثورتين القوات الفرنسية أفدح الخسائر … في 23 حزيران 1921 تعرض الجنرال غورو، لمحاولة اغتيال، على أيدي رجال المجاهد أحمد مريود، عندما كان غورو يعتزم زيارة الجولان، إلا أنه نجا حيث أخطأه رصاص الثوار… و توالت الثورات في كل بقاع سورية, وصولاً إلى جبل العرب( السويداء)، عندما أعلن سلطان باشا الأطرش الثورة، في عام 1925، وعجزت القوات الفرنسية أمام ثورته.. وبايعه الوطنيون السوريون، وعلى رأسهم الدكتور عبد الرحمن الشهبندر … بايعوا سلطان باشا الأطرش، قائداً للثورة السورية الكبرى، التي وصلت أصداؤها، إلى كل أركان الوطن العربي، مما أقلق باريس، و استنفر همجيتها… الثورة السورية الكبرى كانت شاملة لكل بقاع سورية، ومن أبطالها فوزي القاوقجي، و نظير نشواتي… ( في حمص و حماة )، و حسن الخراط، و محمد الأشمر… في دمشق، التي أحكم الثوار سيطرتهم عليها في 18 تشرين الأول 1925، بينما تحصن الفرنسيون بقلعتها، وبقلعة المزه، إلى أن أمر الجنرال ساراي بضرب دمشق، ودمر قسماً كبيراً من حي الميدان، وأحرق حي سيدي عامود، ومن ذلك اليوم عرف بالحريقة( الوسط التجاري لدمشق الآن)… آثر الثوار الخروج من دمشق، إلى غوطتها خوفاً على عاصمتهم من الدمار، ولأن الفرنسيين كانوا متفوقين عسكرياً، توقفت أحداث الثورة السورية الكبرى، في أيلول عام 1926 ليبدأ فصل جديد من الكفاح، الذي أخذ شكل اشتباكاتٍ متقطعة، بين الثوار و الفرنسيين، لم تتوقف طيلة فترة الاحتلال الفرنسي لسورية… فضلاً عن المظاهرات، و الإضرابات التي بلغت ذروتها في الإضراب الستيني( استمر ستين يوماُ) في العام 1935م .

كما تحدث السفرجلاني عن الكفاح السياسي لرجالات الكتلة الوطنية ودورهم في معاهدة 1936 … استمر الكفاح بكل أشكاله لتحقيق الجلاء في العام 1946 ولا نقول الاستقلال…لأن الاستقلال السياسي كان في العام 1943،لكن جلاء القوات الفرنسية كان بعد حوالي الثلاث سنوات، ماطل الفرنسيون فيها كثير،اً قبل نيلنا الاستقلال الكامل، ولم يتوقفوا عن عدوانهم على الشعب السوري، و كان آخر أعمالهم العدوانية ضد دمشق في 29 أيار 1945…

بعد انتهاء حديث الأستاذ السفرجلاني ألقى الأستاذ عصام الحلبي ثلاثة قصائد نظمت لمناسبة الجلاء… لشاعر الشام شفيق جبري، و بدوي الجبل، وعمر أبو ريشة… تفاعل الحضور كثيراً مع القصائد، بل كان أغلبهم يحفظون أبياتها عن ظهر قلب…

الأستاذ نصر الدين البحرة ركز في حديثه على شخصية حسن الخراط، الحارس الليلي لأحدى حارات دمشق... حسن الخراط كان من أهم أبطال الثورة في دمشق، وقد كبد الفرنسيين خسائر فادحة ،وكان له تأثير قوي على الدمشقيين بكل أطيافهم رغم كونه أمياً… كما تحدث الأستاذ البحرة عن زيارة بلفور إلى دمشق بدعوةٍ من سلطات الاحتلال الفرنسية… بلفور هو الذي أعطى الوعد لليهود بإقامة وطن قومي لهم على أرض فلسطين… قوبلت زيارته إلى دمشق باحتجاجات ضخمة، ومظاهراتٍ حاشدة حيث كانت الثورة السورية الكبرى في أوجها، مما أضطره للهرب إلى بيروت.

كما قارن بين عنجهية الجنرال غورو المتعجرف، حينما وضع قدمه على حافة قبر صلاح الدين الأيوبي قائلاً : أفق يا صلاح الدين لقد عدنا… قارن بين ذلك التصرف الحاقد، و بين الاحترام الكبير،الذي كان يكنه الإمبراطور الألماني غليوم الثاني للبطل صلاح الدين … زار غليوم دمشق في عام 1898 لعقد مباحثاتٍ مع حليفه السلطان العثماني عبد الحميد… وتوجه لزيارة ضريح صلاح الدين مع زوجته، وضع عليه إكليلاً من الزهر،وأهداه ضريحاً آخر… مازال موجوداً إلى جانب الضريح الأصلي…

و اختتم الأستاذ البحرة الندوة بقراءة قصيدة للشاعر شفيق جبري من ديوانه نوح العندليب.

ذكريات:

السيدة أميمه الكردي روَت لنا ذكرياتها عن يوم الجلاء الأول: كنت طالبة في مدرسة دوحة قاسيون، في الرابعة من عمري... كان معنا في المدرسة، حسان ابن الرئيس شكري القوتلي... ارتدت البنات أثواباً بيضاء،و جلسنا مع الأولاد على حافة رفوفٍ أحاطت بباصٍ سار في موكب الاحتفال بجسر فيكتوريا ( حيث كان العرض العسكري لمناسبة الاستقلال)... كنا نحمل الورود، و ننشد الأناشيد... ذلك اليوم لم يغب عن ذاكرتي أبداً، كنت في غاية البهجة،وأحفظ الكثير من الأناشيد( أنا الزنبق زهر مطبق...) بعد نهاية الاحتفال، استقبلنا الرئيس القوتلي في قصره بالمهاجرين، و لأنني كنت طليقة اللسان... طُلب مني تحية وزير المعارف منير العجلاني، عندما مررت أمامه... قالوا لي( قولي يعيش منير العجلاني...) رفضت، وقلت وقتها ( يعيش رئيس الشرطة...) لأنني كنت أعتقد في ذلك الوقت، أن الشرطة هي التي حررتنا من الاحتلال، و ليس الوزير...

ويبقى عيد الجلاء حاضراً في ذاكرتنا، و سيبقى كذلك في ذاكرة الأجيال السورية القادمة،و نحن الشعب الذي يأبى الضيم، و لا يتنازل عن حقوقه في الحياة، و الحرية على آخر شبرٍ من أرضه .