يعود تاريخ أول مطبعة دخلت "سورية" إلى عام 1831م عن طريق "إبراهيم باشا"، غير أنّ أول مطبعة تعاونية ظهرت بجهود مجموعة من العمال السوريين المهرة عام 1960م؛ لتكون نواة لأول مؤسسة تعاونية للطباعة.

مدونة وطن "eSyria" التقت بتاريخ 20 شباط 2017، في حيّ "الشريبيشات" في "باب السريجة"، بالحرفي "حبيب عمراني" الذي تعلّم مهنة الطباعة فاحترفها ليكون أحد الأعضاء المؤسسين لمطبعة "الجمعية التعاونية"، التي تعدّ أول مطبعة مساهمة أسسها مجموعة من حرفيي مهنة "فن الطباعة" في "سورية"، حيث قال: «ولدت في "دمشق" عام 1934، وحصلت على الشهادة الابتدائية عام 1948، وانصعت إلى إصرار والدي، فالتحقت بمطبعة "الترقي" في حيّ "القيمرية"، حيث كانت الأشهر في تلك المدة، بدأت تعلّم علم الطباعة، وعلى الرغم من صغري أحببت مهنتي فأتقنتها على أيدي عمال مهرة، وفيما بعد بدأت العمل بطموح وثبات. كنت أقرأ بشغف كل ما يمرّ تحت ناظري أثناء طبعه؛ فتوسعت معارفي العلمية بصورة تراكمية وازدادت ثقافتي. وشعرت بطموح يدفعني إلى التعمق في هذا الفن للوصول إلى المهارة المطلوبة. كان العمال بأعمار مختلفة، وكنت أراقب الجميع، حيث اختصت كل مجموعة بعمل مختلف. كانت أهم منشورات المطبعة مجلة "المجمع العلمي العربي" الذي ترأسه آنذاك "محمد كرد علي"، وكان صاحب المطبعة "صالح الحيلاني"، ومديرها "عبد العزيز القوادري"، وكنت أرى علاقات "صالح الحيلاني" بأصحاب المطابع، مثل: "وجيه بيضون" ومطبعته "ابن زيدون"، ومطبعة "الثبات" لصاحبها "عبد العزيز الموصلي"، و"المطبعة الهاشمية"، وكذلك مطبعة "الدمشقي". وعليه اكتسبت طريقة العلاقات العامة بين مطوري الحرفة، ولمدة كانت كافية لشعوري بمعاناة العمال وما يقع عليهم من جور معاملة أصحاب المطابع، وخاصة فيما يخصّ الأجور».

مع ازدياد الثقافة والتقدم التكنولوجي دخلت مفاهيم جديدة اعتمدت تحديث الآلات المطبعية بوجهٍ عام؛ وهو ما أدى إلى تناقص عدد العمال في الجمعية ليصبح في الوقت الحالي 11 عاملاً فقط

في هذه الفترة ظهر قانون التعويض، وهنا أدرك الجميع ضياع حقوقهم من خلال إصرار صاحب المطبعة الحصول على توقيعهم بتقاضي أجورهم كاملة؛ وهذا ما جعلهم يتصرفون فوراً، حيث تابع: «شعور العمال بالظلم دفعهم إلى إنشاء مطبعة خاصة بهم، من بينهم "عمر حصرية" الذي امتلك عمه "عزت حصرية" مطبعة "العلم"، الذي أشار إليه بعدم جدوى إنشاء مطبعة، لاعتزام وزارة التربية والتعليم إنشاء مطبعة خاصة بها، هنا تردد بعضهم مخافة الإخفاق، إلا أنّ إصرار "فهد الصالح" مدير مطبعة "الصيداوي" شجع كل من: "حبيب عمراني"، و"عبد المجيد بسيمة"، و"فهد الصالح"، و"حمدي الحامض"، و"أكرم طربين"، و"عبد الغني عمار"، و"محمد خير عاشور"، و"عبد الوهاب عاشور"، و"شاكر الأشقر"، و"محمد الخن"، و"محمد يحيى الحموي" على اتخاذ القرار؛ وعليه تم الاتفاق على إنشاء جمعية تعاونية تضم عمال الطباعة الذين لم يوقعوا على طلبات أصحاب المطابع، وتبلورت الفكرة عام 1954، وتم جمع المال من 15 عامل طباعة دفعوا كل شهر مبلغاً لاستصدار ترخيص باسم الجمعية التعاونية لعمال الطباعة، ودعم الفكرة دخول المزيد من عمال مطابع أخرى، وعليه تمكنت المجموعة من شراء آلة طباعة بدائية اسمها المروحة، وتم استئجار عقار لبدء العمل فيه. وبعد ثلاث سنوات حصلنا على آلة أكبر، وهكذا استمرت الجمعية في التوسع حتى أصبح عدد أعضائها 80 عضواً من أمهر عمال الطباعة، حيث حددت قيمة الاشتراك بالحصص على شكل أسهم».

عبد المجيد بسيمة

كان سعر السهم 10 ليرات سورية، وهكذا أصبحت شركة مساهمة، شارك الأعضاء الثمانون في رأس المال كل حسب مقدرته وبدؤوا العمل الجماعي، فاشتروا عام 1960 عقاراً بجانب العقار المستأجر، وتوسعت أعمال الجمعية فأصبح لديها ست آلات مكملة بعضها لبعض، حيث يدخل الورق ليخرج كتاباً جاهزاً للقراءة؛ وهو ما دفع بعض أعضاء الجمعية إلى متابعة الدراسة فأنهوا المرحلتين الإعدادية والثانوية، وكان "حبيب عمراني" واحداً منهم، حيث أضاف: «انتسبت إلى كلية الاقتصاد والتجارة في جامعة "دمشق"، وتخرجت عام 1965، وكان معي في الدراسة "عبد المجيد بسيمة"، الذي حصل على ليسانس من كلية الحقوق، وكذلك "محمد كمال المغربي"، الذي حصل عل شهادة بكالوريوس باللغة العربية».

كذلك فعل "محمد خالد حمودة"، الذي قال: «التحقت بعمال المطبعة وأنا أستعد لتقديم الشهادة الإعدادية، استطعت الجمع بين تعلم الطباعة والدراسة، لأحصل لاحقاً على ماجستير باللغة العربية، لأدرسها كمحاضر في جامعة "دمشق". أحببت الآثار فتعرّفت إلى المواقع الأثرية السورية من خلال عملي كمفتش في المديرية العامة للآثار والمتاحف، ومدير معهد الآثار والمتاحف».

توسعت أعمال المطبعة وتنوع إنتاجها الفكري، فتحول بعض العاملين إلى أصحاب مطابع، ومنهم: "فهد الصالح" صاحب مطبعة "الروضة"، و"سالم سعد" صاحب مطبعة "الصباح"، و"أحمد نصر" ومطبعته "طربين"، و"محمد خير عاشور" صاحب مطبعة "المتنبي"، و"يوسف الفوال" صاحب مطبعة "الفوال". وأدى توسع المنشورات إلى ثراء أصحاب المطابع، ومنذ الستينيات بدأت الجمعية تتعهد بطباعة الكتب المدرسية للمراحل المختلفة، وكتب جامعة "دمشق"، ونظراً إلى إتقان العمل والالتزام بمواعيد التسليم بات لمطبعة الجمعية شهرة واسعة، فطبعت الكثير من كتب "جامعة حلب" أيضاً، يقول "خالد حمودة": «مع ازدياد الثقافة والتقدم التكنولوجي دخلت مفاهيم جديدة اعتمدت تحديث الآلات المطبعية بوجهٍ عام؛ وهو ما أدى إلى تناقص عدد العمال في الجمعية ليصبح في الوقت الحالي 11 عاملاً فقط».

ويضيف "عبد المجيد بسيمة": «استطاعت مطابع الدولة جذب عدد كبير من عمال الطباعة، وكان للهجرة الأثر الأقوى، وقد ساهمت الجمعية بين عامي 1960-1983 في ازدهار الحركة الفكرية والثقافية من خلال كمّ هائل من المطبوعات متنوعة المواضيع، ومن أهمها: "سلسلة الأشراف" 25 مجلداً، و"فردوس محمود العظم"، وكذلك "القبائل العربية في بلاد الشام"، ومجلة "وزارة الأوقاف" التي حملت اسم "منهج الإسلام"، وسلسلة من الكتب في قوانين المحاسبة للمؤلف "فؤاد بازرباشي" رئيس جمعية المحاسبين القانونيين».

وبالعودة إلى كتاب "خليل صابات" تاريخ الطباعة في المشرق العربي، حيث قال: «كان لدخول المطابع مدينة "دمشق" أثره الإيجابي في تطور الحياة الفكرية والثقافية. وقد دخلت المطبعة الحجرية "دمشق" مع حملة "إبراهيم باشا" عام 1831م، التي استخدمت لطباعة الأوامر العسكرية، وفيما بعد عرفت مطابع الحروف عام 1855م بفضل مطبعة "حنا الدوماني" لتصبح مطبعة "سليم مدور" الذي طبع كتاب "المزامير" عام 1856م، في حين أنشأت الدولة العثمانية مطبعتها الأولى في "دمشق" عام 1864م، ومطبعة "الولاية" التي خصصت لإصدار صحيفة "سورية" بإدارة "خليل خوري" اللبناني الأصل، الذي استطاع تدريب عدد كبير من العمال المهرة على فنّ الطباعة».