تحمل قصائده العديد من المعاني والصور الجميلة، وذلك عبر مفردات منتقاة بعناية ودقة، فقد امتلك الشاعر "توفيق أحمد" لغة شعرية شفيفة أخاذة.

مدونة وطن "eSyria" التقت بتاريخ 25 أيلول 2014، الشاعر الكبير "توفيق أحمد" بمكتبه في الإذاعة والتلفزيون؛ ليحدثنا عن تجربته الشعرية، وكان الحوار الآتي:

إذا كانت العلاقة بالوطن والأمة هي ما عبر عنه الشعراء القوميون بالقصيدة المنبرية فإن "توفيق" قد غرد خارج سرب كهذا، فبدأ من قريته التي تقع فيه هو، في المستقبل لا الماضي، بكل ما ينطوي عليه المستقبل من إيجاب وجمال، مستغفراً غيابه عنها مستحضراً ما حفرته طبيعتها في روحه

  • إذا سلّمنا بانتمائك إلى ما يسمّى اصطلاحاً "جيل الثمانينيات"، ما الذي يميّز هذا الجيل عمن سبقه برأيك؟
  • الشاعر توفيق أحمد على أحد المنابر

    ** يكفي هذا الجيل فخراً أنه ولد في عصر التحولات السياسية والاجتماعية والفكرية التي شهدتها فترة الثمانينيات، وقرّر أن يواجه هذه التحولات بالكتابة والإصرار على التحدي، على الأقل لتسجيل موقف إزاء اشتداد الحرب على الإنسان والوطن العربي، وكلنا يتذكر اجتياح "لبنان"، وتوقيع "مصر" أول اتفاقيات السلام مع العدو الصهيوني، وحصار "بيروت"، وبروز مفهوم التطبيع وفلسفة قبول الآخر، لذلك كان المطلوب من الشاعر أولاً والمثقف تالياً أن يطرح مفاهيم مضادة، فكانت المقاومة بالكلمة كما البندقية، والدفاع عن الإرث الفكري والإبداعي السامي، أظن أن شعراء الثمانينيات استطاعوا تكوين صوت شعري مختلف ومغاير للسائد والمألوف، إحدى سماته الإخلاص للكلمة وحسب، والتحرّر من الخطاب الأيديولوجي الذي طغى على اللغة الشعرية عند أغلب شعراء الستينيات والسبعينيات الذين آثروا التغني بالقضايا الوطنية والقومية.

  • كإعلامي وشاعر، أيّما خدم الآخر لديك؟
  • من مجموعاته الشعرية

    ** بلا دبلوماسية أو مواربة أقول إن الشاعر لديّ هو الذي خدم الإعلامي، فقد التحقت بسلك الإعلام بعمر خمسة وعشرين عاماً، وكنت قبل ذلك قد قرأت مئات الكتب والمدونات في جميع صنوف المعرفة والإبداع، ونشرت عشرات القصائد والمقالات في مناحي الثقافة وشؤون الحياة، ولم أشأ بعد ذلك أن أترك للإعلامي أن يخدم الشاعر رغم الأهمية الكبرى للإعلام في الترويج لأي صنف من صنوف الإبداع، وأقصد بذلك الإعلام المتخصّص بالثقافة وليس الإعلام العابر والجزئي واليومي والانطباعي السريع، وأزعم أنني كنت منحازاً إلى الشعر وحده، فيما كان للإعلام شأن آخر يتعلق بالمهنية فقط أكثر منه في فطرة الشعر الذي يداهمني في لحظات مفاجئة تمليها حالة وجدانية ويفرضها موقف ما لا يحتمل التأجيل أو الإعداد المسبق، الذي يمكن اللجوء إليه في عملي الإعلامي.

  • تتكئ في العديد من قصائدك على الذاكرة المكانية الأولى، وكأنك تدين لها بالشعر؟
  • غلاف أعماله الشعرية الكاملة

    ** المكان جزء أساسي من ذاكرة الشاعر وذكرياته، ومنذ بواكير قصائدي كان لديّ نزوع باتجاه استحضار المكان الأول الذي شهد تفتح وعيي وطفولتي وشبابي، وأقصد هنا الريف بما يحمل من حميمية وسحر الطبيعة الخلابة، مفردات هذا المكان تعددت كثيراً، لكن كان البيت الترابي، وأشجار البلوط والسنديان، والجداول المنسابة والينابيع المتدفقة، والطرق والدروب الترابية الأكثر حضوراً في قصائدي، وأظن أن الشاعر في نزوعه نحو استدعاء المكان إنما يؤكد هويته وانتماءه للأرض التاريخ والجغرافية، ما يخلق عنده ذاكرة مكانية هي بشكل أو بآخر تعبير عن أثر وعمق هذا المكان في روح الشاعر أولاً، وفي أشعاره ثانياً.

  • أين تجد نفسك الآن بعد تجربة تمتد لأكثر من ثلاثة عقود؟ أين وصلت بالقصيدة، وإلى أين وصلت بك؟
  • ** ما زلتُ حتى اللحظة أبحث وأنقّب عن أي شيء يغني تجربتي الشعرية، فاللغة بحرٌ ينبغي أن أستزيد منها كلما سنحت لي فرصة التأمل في مفردات قواميسنا ومعاجمنا العربية، وأن تعي أهمية المفردة أو الجملة فإن هذا يعني أنك تدفع قصيدتك نحو الاكتمال، فضلاً عن رغبة عارمة ودائمة في إعادة قراءة ما تيسر من الشعر العربي قديمه وحديثه، والاطلاع على ممكنات الحداثة في القصيدة العربية، أعتقد أنني مملوء بجمال الشعر حتى الثمالة، تستهويني القصائد ذات النبرة الغنائية العالية، وتستميلني الصور الشعرية المكثفة بمعانيها وبلاغتها، والمترعة بدلالاتها، وأقف طويلاً عند أي قصيدة يمكن أن تتغلغل بسرعة في مسام وعيي وذاكرتي، ومدى قدرتها على إدهاشي والخلود في روحي، وقدرتي أيضاً على حفظها واستبصار واستكشاف المضمر في سطورها.. أما عن تجربتي فأنا راضٍ تماماً عما أنجزته بعد ثلاثين عاماً من الكتابة، قصيدتي بسيطة لا غموض فيها ولا إبهام، أحاول ما استطعت ألا أضع أي حاجز بيني وبين القارئ، وهذا ما دفع الكثيرون من المتابعين والأصدقاء وحتى النقاد إلى تشجيعي على المضي في الكتابة التي هي في النهاية مسؤولية كبيرة، عليّ أن أكون بحجم التجديد فيها وصقلها وجوهرتها ما استطعت إلى ذلك سبيلاً.

  • يصفك الكثيرون من النقاد والدارسين بأنك شاعر مجرب، بمعنى أنك كتبت بكافة أنماط الكتابة الشعرية المعروفة، إلى أي مدى تعتقد أن التجريب ضرورة للإبداع؟
  • ** كما ذكرت سابقاً فإن الفن الحقيقي لا يعرف السكون والاستسلام للواقع أو الاقتداء بالمنجز الشعري أو الارتهان للتقليد، بل لا بد من البحث الدائم للارتقاء بهذا الفن، وقد يكون التجريب في الأنماط الشعرية نوعاً من التحرّر وكسر القوالب الجاهزة، فأنا ذهبت بملء إرادتي نحو قصيدة التفعيلة وتالياً قصيدة النثر، ليس حباً بالمغامرة إنما قد يفرض الشكل نفسه في قصيدة ما فتكتبها تفعيلة أو نثراً بنضج ووعي كبير، لكني ظللت مخلصاً لقصيدة البحر لأنها في ظني الأساس والأصل، ومهما يكن من أمر فإن التجريب وابتكار طرائق تعبير مختلفة وجديدة في الكتابة حق لكل مبدع، وأجزم أنه أضاف لي الكثير لأنه كان مفتوحاً على الأنماط الشعرية كافة، وأبقيت في دواويني ما للنثر للنثر، وما للشعر للشعر.

    أما الشاعر "خالد أبو خالد" فيقول: «"توفيق أحمد"، شاعر يستند إلى التراث الذي وصلنا من ديوان العرب، ويستقبل قصيدته بروحه التي تعيش عصره في آن، أما عندما أقول إن الشاعر يستند إلى التراث فإنما لأؤكد على تأكيده أن الشعر استعارة وكناية وتشبيه ولغة قوية متماسكة، وعصرية في ذات الوقت، وهي قضايا ليست معزولة عن الإضافات التي أضافتها قصيدتنا العمودية الحديثة».

    ويضيف: «إذا كانت العلاقة بالوطن والأمة هي ما عبر عنه الشعراء القوميون بالقصيدة المنبرية فإن "توفيق" قد غرد خارج سرب كهذا، فبدأ من قريته التي تقع فيه هو، في المستقبل لا الماضي، بكل ما ينطوي عليه المستقبل من إيجاب وجمال، مستغفراً غيابه عنها مستحضراً ما حفرته طبيعتها في روحه».

    جمعت دار "الينابيع" بـ"دمشق" قبل أربعة أعوام مجموعاته الشعرية الست التي صدرت بين عامي 1988-2008 ضمن مجلد كبير سمي: "الأعمال الشعرية للشاعر توفيق أحمد".

    نختار من قصائد "أحمد" النماذج الآتية:

    من قصيدة "مفاتيح للغيم المقفل":

    متبرّئاً من ملح صوتك جئتُ أروي قصتي للحبرِ

    كم في اليوم أو في الشهر

    هذا النافرُ الغجري

    يجمحُ في فضاء أصابعي

    يا أنتِ يا فرساً من القمح المذهّبِ

    كيف جئتِ ..

    من قصيدة حُـلـُـم:

    ... وبعدها سافرتُ في جزيرة الحنينْ

    رأيتُ أني أجمع الماء مع النيرانْ

    وأنني أنهب من بيادر المراحل القادمة امتلاءَها

    وأنني بالحُلُم الجانح أفضح الزمانْ...

    من قصيدة لماذا؟:

    إذا كان بيني وبين طموحيَ بعضُ الثواني

    لماذا يخاتلني العمرُ

    يزرعُ فيَّ انهياري

    ويجعلُ حجم سمائي

    يساوي ردائي

    ويُسرجُ صهوة بؤسي

    ويوقفُ في الروح بدءَ الأغاني

    ليذبح فـيَّ اندياحَ الأماني ؟