"رفيف المهنّا"؛ شاعرٌ وطبيبٌ نفسيّ، عرف كيف يسافر في أسئلة الحياة وأبعادها، فكانت كتابتهُ، هي طريقتَه في رصد التفاصيل واكتناز الرّؤى.

مدوّنة وطن "eSyria" تواصلت مع الشاعر عن طريق الإنترنت بتاريخ 1 أيلول 2014، للحديث عن تجربته في الكتابة، وكان معه هذا الحوار:

في كتابه "كلام عاديّ جدّاً، الأسود والأبيض" يمارس الحكيم "رفيف المهنّا" التدفق الحرّ على الورق؛ بعض نصوصه يغلب عليها طابع القصص القصيرة، بعض آخر منها له رهافة قصائد النثر، فيما بعض آخر أقرب إلى الخاطرة أو المقالة الصحفية، لكنّه في كلّ الأحوال، يُعْمِل عقله ويمارس بوح قلبه بحميميّةٍ ساحرة، وهو غالباً ما ينقّب في تفاصيل الحياة اليوميّة ليصلَ إلى الحكمة المكثفة التي تستدعي منّا وقوفاً وتأمّلاً، إذ يتوصّل إلى ثمار الخبرة، ويسبكها في استنتاجاتٍ لافتةٍ ترقى إلى مستوى الحكمة

  • بدايةً بمن تأثرت؟ ولماذا الكتابة في عالم الاستهلاك المادي؟
  • في إحدى لحظات الكتابة

    ** أعتقد أنّي تأثّرتُ بمن لا يكتبون أكثر من تأثّري بمن يكتبون، ورغم ذلك أظنّ أنّ "جبران خليل جبران" هو الماء الأولى التي سُكبتْ فوق تربتي الفكريّة، "جبران" يتناسب مع أبناء الرّيف مثلي؛ لأنّ الرّيف لا يتكوّن من أفكارٍ بل من صورٍ متنوّعةٍ، إنّ كتاباته تحتاج لذاكرةٍ بصريّة أكثر منها لغويّة، وهو أوّل بيتٍ استقبلني، عندما قرّرتُ الخروجَ من بيت أبي، أمّا سبب الكتابةِ في عالم الاستهلاكِ المادّي؛ فلأن العالم دائماً مادّي، والكتابة هي طريقة جوابٍ عن أسئلةِ الحياة، إنّها فعل امتنانٍ لكلّ هذا الجمال الحياتيّ، الحياة تحترمني جدّاً، وأنا أشكرها بالكتابة.

  • إلى أيّ حدّ انعكست الغربة في كتاباتك؟ وكيف تنظر إلى ثنائية الوطن - المغترب في تجربتك؟
  • غلاف كتابه "كلام عادي جدّاً"

    ** إنّ الحياة موجودةٌ في كلّ مكانٍ، والغربة هي هذا الانقطاع الإراديّ عن الحياة، ولا أحبّ أن يصلَ سواد الغربة التقليديّة إلى حبري، الوطن من حيث المبدأ هو حيث أكون مُفيداً، صادقاً، وحقيقياً، ولا يمكن لي الآن أن أربط الوطنَ بالمكان، لكنّي أعيشُ مع وطني الأوّل "سوريّة" ما يشبه قصصَ الحبّ الأوّل، بأمانةٍ أنا لا أرى الوطنَ والمغترَب كثنائيّةٍ، إنّهما مراحل من مسيرة الحياة، ولا أجد أيّ تضادٍّ بينهما، سوى بعض الشّحناتِ العاطفيّة الّتي تهبّ مع رياح الذكريات، أؤمن أنّ الثنائيّة الأدقّ، هي الوطن والعاطفة.

  • كتابك "كلام عادي جداً" مجموعة من الخواطر النثرية القصيرة، لماذا اخترت هذا الجنس الأدبي متجاوزاً السياق التقليدي؟
  • ** إنّ هذا الكتاب، هو البحر الذي تجمّعتْ فيه الآن أنهار روحي، وينابيعها، لا أظنّ أنّي أملكُ قرار أنهارِ الرّوح، ولا قرار استقبال البحر، السّياق التّقليديّ الوحيد برأيي، هو وجود الكتاب، أمّا ما يحتوي هذا الكتاب فيحتاج إلى شرطٍ واحدٍ حتّى يصيرَ كتاباً؛ إنّه الصّدق، بوجود الصّدق، فلا وجود لأيّ سياقٍ تقليديّ، وكلّ شيءٍ ممكن.

  • كيف تنظر إلى ما يمكن تسميته بالأدب "الفيسبوكي"؟ وهل حقاً نشهد انحسار الكتاب الورقيّ لمصلحة الكتاب الإلكترونيّ؟
  • ** لا أظنّ أنّ كلمة "الأدب الفيسبوكيّ" تسمية دقيقة، إذاً الجديد هو القارئ الّذي صار يريد أن يقرأ كلّ شيءٍ عن طريق حركة الإصبعِ السّريعةِ، للقارئ "الفيسبوكيّ" العربيّ صفاتٌ نفسيّة محدّدة، تتناسب مع ثقافتنا الّتي ترفض الانتظار والصّبر، والدّقة، والتّركيز، بالنسبة لي؛ أنا أنشر على "الفيسبوك" نصوصاً قابلةً لتكون منشورةً فيما بعد في كتابٍ تقليديّ، ولا أكتبُ لقارئٍ "فيسبوكيّ" بعينه، أنشر ما أراه جميلاً ومفيداً وممتعاً في آن واحد، أمّا فيما يتعلّق بانحسار الكتاب الورقيّ فلا أعتقد أنّ القارئ، بمجرّد أنّه صار يقرأ في صفحات "الفيسبوك"، صار قارئاً للكتب، فقارئ الكتب الحقيقيّ لا يعتمد على "الفيسبوك" في خياراته، أنا ممّن يعتقدون أنّ انتشارَ "الفيسبوك" هو نتيجةٌ للحربِ في "سورية"، وأظنّ أنّه، بمجرّد استعادة الشّعور بالأمان، سيقلّ بشكلٍ ملحوظٍ عددُ روّاد "الفيسبوك"، من هنا، لا أعتقد أنّ "الفيسبوك" والكتاب الإلكترونيّ قد يؤثّرا بشكلٍ حسّاسٍ في مكان الكتاب الورقيّ.

  • لا يعوز الكاتب في هذه الأيّام سوى القرّاء، كيف يمكن إعادة القارئ إلى فلك الشّعر؟
  • ** التواصل مع القرّاء، هو حاجةٌ وأداةٌ من أساسيّات الكتابة، إنّ ثقافتنا الّتي تعتمد على اللّغةِ المحدّدة، ترفض الخروجَ عن سيطرة اللّغةِ بمعناها الشّارح والتّعليميّ، إلى اللّغةِ بمعناها المُضيء، اللّغة بما تحرّك فينا، لا بما تُعطينا، الشّعر كي ينموَ، يحتاج إلى ثقافةٍ يكون الفرد فيها مسؤولاً، ومعترِفاً بذاته ككيانٍ منفصلٍ، لا مجرّد وعاءٍ تُسكبُ فيه الأفكار الجمعيّة التلقينيّة، عندما يضجر الفرد من اللّغة التلقينيّة، سيذهب إلى الشّعر، الشّعر هو فعلٌ إنقاذيّ للفرد من محاولته الدّائمة للفهم، إنّه فعلُ نضوجٍ وإنضاج.

  • كيف تنظر إلى النّقد ودوره؟
  • ** النّقد عندنا هو ابن ثقافته الّتي تعتمدُ على التّصنيف، واكتشاف الهفوات والأخطاء، وما لم يتحوّل النّقدُ من دور المُحاسِب، إلى دور الرّاعي والمُرافق، فلن يؤتيَ ثماراً، وأظنّ أنّ النّقدَ لا يجوز، قبل أن يكتبَ الكاتبُ عدّة كتبٍ، وحتّى تكون شخصيّته، قد تبدّتْ واضحةً له.

    والنّاقد الأديب والصّحفي "حسن م يوسف" قال: «في كتابه "كلام عاديّ جدّاً، الأسود والأبيض" يمارس الحكيم "رفيف المهنّا" التدفق الحرّ على الورق؛ بعض نصوصه يغلب عليها طابع القصص القصيرة، بعض آخر منها له رهافة قصائد النثر، فيما بعض آخر أقرب إلى الخاطرة أو المقالة الصحفية، لكنّه في كلّ الأحوال، يُعْمِل عقله ويمارس بوح قلبه بحميميّةٍ ساحرة، وهو غالباً ما ينقّب في تفاصيل الحياة اليوميّة ليصلَ إلى الحكمة المكثفة التي تستدعي منّا وقوفاً وتأمّلاً، إذ يتوصّل إلى ثمار الخبرة، ويسبكها في استنتاجاتٍ لافتةٍ ترقى إلى مستوى الحكمة».

    الشّاعر "بشّار عبد الله حسين" قال: «يقول "رفيف المهنّا": "لكي تُشعِلَ شمعةٌ شمعةً أخرى، على إحداهما أن تنحني"، الثقافةُ، صلةُ تواصلٍ مع النّاسِ؛ لا استعلاءَ ولا استكبارَ، أجل، إنّه صديقي الدّكتور، صاحبُ القلم المضيء، شاعرٌ من طرازٍ خاصّ، ورفيعٍ، وله قدرةٌ هائلةٌ على نفخِ روح الحياة في الأشياء؛ أكانت مهملَةً أم لا، حتّى التّفاصيل التي لا تُعيرُها أدنى اهتمام، تراها وهو يكتبُ عنها كيف تنمو، وتزهرُ، وتثمرُ، وكذائقةٍ شخصيّة أقول: إذا أردتَ أن تبنيَ إنساناً، ووطناً حقّاً، فاقرأ ما يكتبهُ هذا السّوريّ الإنسانُ، واتركْ لعقلكَ مداه».

    من قصائده "عاشقٌ سهل":

    "لم أحصِ يوماً عدد النساء

    التي أحببتْ

    بل حاولتُ أن أرمي أسماءهنّ

    خلف الرّيح

    وكلّما نجحتُ في الاختباءِ

    نجحنَ في العودة؛

    واحدةٌ على هيئة مظلّةٍ مكسورةٍ في يوم ممطرٍ

    وأخرى على شكل موعدٍ تأخّرَ عن موعده

    وثالثةٌ تحضرُ في فستانٍ أسودٍ

    على واجهةٍ معتِمةٍ لألبسةٍ نسائيّة

    وكأنّ الحبّ لا يذهب

    يُحاصرني كجسدي في جسدي

    وفي محيط العطر والغمامْ

    وكأنّ الحبّ لا يتعب

    يترك الأسوَد للّيلِ الحزينِ

    ويفتح نوافذ الأبيضِ للحمامْ

    إنّه الذاهب الباقي بطاقةَ سفرٍ

    باتّجاهٍ واحدٍ، ولمحطّاتٍ كثيرة،

    بالمقابل.. أنتَ "عاشق سهلٌ" قالت لي إحداهنّ

    سهلُ الحضورِ

    سهلُ الغيابِ

    سهلُ النّسيانْ

    لا أملأ بالملح قواربي

    ولا أبحر أساساً إلا لأغرقَ وأُغرِقَ المكانْ

    أنا عاشق مرتاحٌ في سرير ذكرياتي

    لا أطلب حريراً أكثرَ، ولا نبيذاً أحمرَ ... ولا غفرانْ".

    يُذكر أنّ الشّاعر "رفيف المهنّا" من مواليد "دمشق" عام 1973م، صدر له ديوان "كلام عاديّ جدّاً، الأسود والأبيض"، في العام 2014.