شاعر الجمال والقتال كما كنّاه "إيليا أبو حاوي"، ورسول الفنّ كما قال عنه "القرويّ"، كان لشعره أثره ووقعه على صفحات الأدب العربي، إنه "عمر أبو ريشة".

مدونة وطن "eSyria" التقت بتاريخ 19 تموز 2014، الشاعرة "سلام تركماني"، فتحدثت عنه: «ولد في 10 نيسان 1910، في دار جدّه لأمّه في "عكّا" عندما كانت أمّه في زيارة لهم، نشأ في بيئة علم وثقافة، حيث كان والده "شافع" شاعراً موهوباً، ووالدته "خيريّة الله اليشرطيّة"، كانت تروي الأشعار ولا سيما شعر المتصوفة، تعلّم منذ نعومة أظفاره القرآن الكريم، واطلع على طرق الصوفيّة ومبادئها، قرأ الأدب العربيّ نثره وشعره، اكتنز منه اللغة والأسلوب، والأمر اللافت أن أولى خطواته في طريق الأدب والشعر كانت مسرحية شعريّة بعنوان "ذي قار" كتبها وهو لم يتجاوز العشرين من العمر، جعلها في أربعة فصول، عالج فيها موضوع الحرب بين العرب والفرس، ورسم ملامح البطولة العربيّة، وخلّد أمجاد العرب في سطوره، يقول فيها:

اتسمت شخصيته بالأنفة والترفع وعفّة اللسان، إضافة لوطنيته الصادقة التي تجلّت في أكثر أعماله، وكان ترجماناً لمشاعر العشّاق وما تضطرب به نفوسهم وأوتار قلوبهم

"يفرّقهم إذا نصروا سلام.... وتجمعهم إذا قهروا حروب

عمر أبو ريشة بحالة تفكير

هم الغرّ المطاعين الدواهي.... إذا ناداهم اليوم العصيب

هم الفرسان إن صهلت خيول.... وإن غضّت على الشكم النيوب

عمر أبو ريشة سفير سورية في البرازيل

لهم من كلّ مكرمة نصيب..... وما للجبن عندهمُ نصيب"».

وتتابع: «قرر والده إبعاده عن ساحة الأدب خوفاً أن يشغله الشعر عن مستقبله وعلمه، فأرسله إلى إنكلترا عام 1930 ليدرس كيمياء الأصبغة، لكنّ الألوان الكيميائيّة لم تنسه ألوان القوافي وزركشة الكلمات، ظلّ صديقاً للقلم ولم يمنعه ذلك عن مواظبته الشعريّة، عاد في العام 1949 إلى ربوع وطنه، وبعودته عين مديراً لدار الكتب الوطنيّة في "حلب"، وبقي مديراً لها حتى التحق بالسلك الدبلوماسيّ، حيث مثّل وطنه سفيراً في عدد من الدول أحسن تمثيل، بحقيبتين الأولى دبلوماسيّة استمرت من 1949 حتى 1964 في عدد من الدول الأجنبية: الهند، البرازيل، الأرجنتين، النمسا، الولايات المتحدة الأميركية. والثانية شعريّة، حيث إنّ القارئ لشعره يخلص لنتيجة مفادها بعد اطلاع بسيط لملامح حياته أنّ إنتاجه الشعريّ، هو حصيلة منطقيّة لما نهله عبر مراحل حياته جميعها من ثقافات عربيّة وعالميّة، فقد نظم شعره من خلال بوحين شعريين متلازمين في وجدانه وعقله يقودان سياق قصائده، الأوّل: بوح رضع الثقافة العربيّة بأصالتها وأدبها وعلومها ونوابغها وأدبائها، وحمل على عاتقه همّاً إنسانيّاً، هو أن يصون بحروفه العروبة وتاريخها، فكانت أشعاره تغنّي الأصالة العربيّة، وتستقي من تاريخها معانٍ يفتخر بها، وتميزت قصائد هذا البوح بالإحساس الدافق بالأمجاد العربيّة، وتفاصيل التاريخ من أبطال وأحداث، حيث حملت قصائده مهمّة التذكير بالمجد العربيّ التليد، فدأب يستحضر أبطاله وأهم أحداثه فذكر "سعيد العاص، إبراهيم هنانو، خالد بن الوليد، صلاح الدين الأيوبي، وآخرين"، فها هو يستحضر البطل خالد بن الوليد في قصيدة بعنوان "خالد" باعتباره رمزاً للمجد العربيّ التليد وأنموذجاً للبطولة العربيّة، طالباً من الأساطير أن تنتقي له الحكاية الأسطوريّة الأمثل التي يستحقّها هذا البطل، يقول:

"لا تنامي يا روايات الزمانِ... فهو لولاك موجة من دخانِ

وانثري حولي الأساطير فالرّو....ح على شبه غصّة الظمآنِ".

كما اتكأ بشعره على المعاني الدينيّة، يستقي منها الحكمة والموعظة ويناجي الله تعالى، إضافةً لغنى شعره بالمفردات القرآنيّة، واتكائه على الموروث الدينيّ الإسلاميّ والمسيحيّ بهدف إيصال أهدافه الشعريّة للمتلقي، فظهر بهذا الاتكاء متسامحاً لم يفرّق بين هذين الدينين، حيث يقول:

"يا من يفرّق بين أكباد الورى.... باسم الشرائع أنت أكبر مجرمِ

ما الدين إلا قطرة من رحمة..... قدسيّة سقطت على حقل ظمي

ما الدين إلا نفحة روحيّة...... بزغت على أفق الحياة المظلم".

وبالاستحضار لمدن تشيد بتاريخ العروبة "أوغاريت، بابل"، فهو يرى أنّ أطلال "أوغاريت" تشبه أطلال أمّته التي أثقلت عاتقها أطماع الاستعمار، يقول:

"يا روعة الماضي البعيد المستسرّ المبهم

ما لي أراكِ كئيبة النظرات، لم تتبسمي

هذا الذهول ينمّ عن ذاك الجوى المتكتّم".

أمّا الثاني، فهو بوح شغوف بقراءة أدب الأمم الأخرى بلغاتها الأصليّة غير المترجمة، متقن لسبع لغات غير لغته العربيّة، متشرّب لعادات وتراث الشعوب التي عاش في كنفها، وتميّزت قصائد هذا البوح بالتشرب المتجانس لحضارة الشعوب والبلدان التي زارها سفيراً كان أم سائحاً، فهو مثلاً عندما زار معبد "كاجوراو" في الهند انكبّ على وصف تفاصيله من تماثيل ومنحوتات تمثّل للوهلة الأولى مشاهد إباحيّة، لكنّه بقصيدته انتقل بالقارئ من المشهد الحسيّ المادي إلى ما هو أرقى، مقترباً بذلك إلى الثقافة الهنديّة، التي ترقى بالروح وتبتعد عمّا هو حسي، وبالاستلهام الواضح لمدن ومناطق أجنبيّة كان لها أثر في إحساسه الفنيّ، فنراه يستلهم "فيينا، وباريس، وإفرست، وكوباكبانا، ومدريد، وكاجوراو، وغيرها"، فهو عندما زار إحدى غابات البرازيل "كوباكبانا" سرح خياله إلى أنقاض كهوف الهنود الحمر الذين سكنوا هذا المكان، فراح يسأل عن مصيرهم ومعاركهم:

"مطاف الجمال مطاف الجلال

ملكت عليّ عنان الخيال

طويت العصور الخوالي الطوال

وما زلت تسأل ركب الليال

وعن كلّ أسمر سمح الخلال

وأين الطراد وأين النزال؟".

وبالتأثر المتقن بآداب الأمم التي قرأها وأعجب بها، فهو رفض أن يقرأ آداب الشعوب الأخرى إلا بلغتها الأمّ، فانكبّ يتعلم لغاتها ليتلذذ بقراءة الأدب بلغته الأصل بعيداً عن الترجمة والمنهج الأكاديميّ، فقرأ "روبرت براوننغ، وإغار آلان بو، وشكسبير"، وبالاستحضار لشخصيّات عالميّة لها حضور في الذاكرة الإنسانيّة مثل "جان دارك" استحضرها في قصيدة تحمل اسمها، قال:

"فإذا البتول على جواد مثل جلد الليل فاحم

وأمامها علم البلاد مموّج الجنبات باسم

ووراءها جيش من الفرسان مشدود العزائم"».

وعن أهم ألقابه العلمية والجوائز التي حصل عليها تقول: «عيّن مراسلاً لمجمع اللغة العربيّة بـ"دمشق"، وعضواً للأكاديميّة الأدبيّة البرازيليّة، وعضواً للمجمع الهنديّ للثقافة العالميّة، أما التكريم فتمثل بدكتوراه ثقافيّة من الجمعية العالميّة، وسام الاستحقاق السوريّ 1952 من الدرجة الأولى، وسام الاستحقاق اللبنانيّ من الدرجة الأولى من الرئيس الأسبق إلياس الهراوي، الوشاح البرازيليّ، إكليل الغار من أكاديميّة البرازيل، الوشاح الأرجنتيني، الوشاح النمساويّ 1961، كسفير للفكر العربي».

وتختم حديثها بالقول: «انتقل إلى جوار ربه عام 1990 بعد إصابته بجلطة دماغيّة أقعدته الفراش سبعة أشهر، وكان آخر ما نظمه رسالة إلى زوجته "منيرة مراد" يقول فيها:

"رفيقتي لا تخبري إخوتي... كيف الردى كيف عليّ اعتدى

إن يسألوا عني وقد راعهم... أن يبصروا هيكلي الموصدَ

قولي لهم سافر قولي لهم... إنّ له في كوكب موعدا"».

الباحث "مروان مراد" قال عنه: «اتسمت شخصيته بالأنفة والترفع وعفّة اللسان، إضافة لوطنيته الصادقة التي تجلّت في أكثر أعماله، وكان ترجماناً لمشاعر العشّاق وما تضطرب به نفوسهم وأوتار قلوبهم».

بدوره الدكتور "جهاد بكفلوني" قال: «منذ ظهوره بثلاثينيات القرن الماضي بشر بثقافة شعرية عالية، كان صوتاً مدوياً في المنتديات والمهرجانات الشعرية ولا سيما التي تتعلق بقضية فلسطين، أبدع مختلف أنواع الشعر الذي عكس شخصية نبيلة ومواهب راقية».