استوحى الزجل كلماته من جمال الطبيعة بدءاً من جمال الشجر والثمر، ومن الجبل حيث القوة والشموخ والسمو، ومن جمال المرأة، لذا تميز هذا النوع من الشعر بالبساطة وروعة الصور.

مدونة وطن "eSyria" زارت بتاريخ 8 كانون الأول 2013 بلدة "أشرفية صحنايا" والتقت في بيت شاعر الزجل والشعر الشعبي "حمد رفاعة" ثلة من أصدقائه؛ ومنهم السيد "فريد برجاس- أبو أيسر" الذي قال عنه: «باعتقادي، الشعر الشعبي هو أقرب إلى النفس الإنسانية من الشعر الفصيح، وأوسع صدراً من حيث الصدق والحب، ولأن الشاعر رجل صادق بسيط في تعامله مع الآخرين، محب للغير وقارئ جيد في ذات الوقت، استطاع أن يؤدي رسالته الشعرية ضمن الإمكانات المتاحة وفي المحيط الذي يستطيع التحرك فيه، فكانت لغته الشعرية بسيطة وعميقة في ذات الوقت، حيث لا يستخدم كلمة إلا لخدمة المعنى والصورة التي يريد، فخلا شعره من الحشو والزوائد».

إن كثيرين من كتاب الأغاني لا يتم تسليط الضوء عليهم، أو حتى التنويه بهم ولو بكلمة واحدة، ويتم الاهتمام فقط بالملحن والمطرب

وتابع : «إن مجتمعنا ثري جداً بعلاقاته الاقتصادية والمادية والاجتماعية والفكرية، وفيه من المتناقضات ما يكفي لاستنهاض همم الكتاب والشعراء، وشاعرنا أحد هؤلاء الذين يثير انتباههم ما في هذا المجتمع من حوامل رئيسية، حيث يعيد للإنسان قيمته في الخير لأن الإنسان بحد ذاته ممتع وجميل، ويعبر عما له وما عليه في العديد من القضايا المطروحة. ولا يفوتنا أن الشاعر قدس المرأة في شعره وأعطاها مكانة رفيعة تستحقها، فهي في شعره وقناعته الوطن والأم والأخت والزوجة».

صديقا الشاعر عبدو الصوص فريد برجاس

الشاعر الشعبي "حمد رفاعة" تحدث إلينا بحديث اتسم بالشفافية والوضوح، ببساطة الشاعر وتواضعه، دون أن يفوتنا أن نقول إن قصائد أخرى له استوحاها من قراءاته وتعمقه في مواضيع الأدب والدين والسياسة والشعر أيضاً لكبار الشعراء والروائيين والمؤرخين، فقال: «هناك مدرسة أخرى يتلقى الإنسان تعليمه فيها هي الحياة والبيئة الاجتماعية، يؤثر فيها وتؤثر فيه، تكتنز إمكاناته وعطاءاته، وتأخذ منه لتنثر رحيقها على الآخرين».

وعن البدايات الشعرية تابع: «لم أجرؤ على كتابة الشعر رغم امتلاكي بساط شيطانه، أهواه وأعشقه، ولكنني لم أستطع التقرب منه لعدم امتلاكي اللغة، لكن ممارسات الناس وعلاقاتهم مع بعضهم بعضاً استنهضت همتي ودفعتني إلى الكتابة والتحليق في عالم القصيدة، بعد أن وجدت منهم الساذج والمتعالي، المتواضع والكريم، ومنهم من يحب مساعدة الآخرين ومنهم الحزين واليائس ومكسور الجناح، ومن هؤلاء أيضاً من تفرغ للفرح والمجون ولا يعير لأي من مصائب الدنيا اهتماماً».

الشاعر مع أوراقه

ويضيف: «المعاناة واليتم والحاجة وتهكم الآخرين، كلها عوامل ربما تسهم في إطلاق العنان، فيبدأ الشاعر مخاطبة كل شخص من هؤلاء حسب وضعه النفسي والمعنوي، فكانت المقالب المضحكة والساخرة، ولكن ضمن حدود اللياقة والأدب والأخلاق الرفيعة التي لا تجرح أحداً، وهكذا إلى أن اكتشفت فيما بعد أن روح السخرية تلامس الآخرين بعمق وتأخذ منحاها الإيجابي في نفوسهم؛ لأنها تعبير صادق عن حب لا عن كراهية، وتؤكد أن في العلاقة الإنسانية ما هو أسمى من المادة والمنصب والكرسي والجاه والتستر تحت العباءات والمعاطف والياقات.

لهذا كله حاولت إرضاء الأذواق جميعها، فكتبت في الزجل والنبطي أي "المنظوم بلهجات الجزيرة العربية وما جاورها"، وكتبت في "العتابا والميجانا"، وأقمت العديد من الأمسيات، صحيح أنني لم أحصل على أي جوائز أو تكريمات، لكنها لا تعنيني حقيقة، فتكريمي دائماً يتم بسماع ما يطلقه لساني من أبيات وإحساسي العالي به، كذلك الآه التي أسمعها من الآخرين وإبداء الإعجاب بما أقول».

مع أصدقائه

وأشار "رفاعة" إلى الإجحاف بحق الشعراء الشعبيين، ولاسيما منهم من يكتب الأغاني، حيث يوضح بالقول: «إن كثيرين من كتاب الأغاني لا يتم تسليط الضوء عليهم، أو حتى التنويه بهم ولو بكلمة واحدة، ويتم الاهتمام فقط بالملحن والمطرب».

وسألنا الشاعر عن موقف طريف حصل معه فقال: «خلال لقائي أحد مدرسي اللغة، لمس عندي نزعة الكتابة، وعندما شارفت الجلسة على الانتهاء، قال المضيف: ختامها مسك مع قصيدة للشاعر "أبي هشام" والمقصود أنا، عندها لم يرق الموضوع للمدرس، وقال بتهكم: هل الشاعر يقرض الشعر الموزون، فأجاب المضيف: لا، إنه شعر شعبي، وما كان من ذلك المدرس إلا أن أطلق حركة ساخرة من فمه، تعبيراً عن استخفافه، فاستوجب الموقف الرد عليه، بقصيدة سميتها "منبراً"، فقلت:

"بكير عا شعر زجل إصحى..... ولا تحرموا من طلتو الفرحة

ولولا بكي، بإيدين دفيانين..... امسح دموعو بس لو مسحة

صدق لو قال بلغتو بيتين.... بقول عشر أبيات بالفصحى

الأذن بتصغيلو بشغف والعين... وعا كلمتو بتنام وبتصحى"».

ويثير إعجاب الشاعر المقال المفيد الذي يحمل في معانيه وبين طياته المعلومة المفيدة التي تغنيه أحياناً عن كتاب بأكمله، منتقداً في ذات الوقت الكتاب الذي يتم تسليط الضوء عليه وعلى صاحبه وفي حقيقة الأمر، لا قيمة له ولا فائدة، فيقول في قصيدة بعنوان "مقال":

"جانا طبيب الخير بعلاجو...... تابعتمنا يضويلنا سراجو

عرفنا أبو النواس والخيام.... ونزار عشقو السطر وغناجو

عرفنا النبي موسى وسام وحام.... والأتقيا اللي ربهن ناجوا".

ولأن المجتمع امتلأ بالأشخاص الذين لا يهتمون بمصالح الناس وهموم الآخرين، ومن هؤلاء لا يمتلكون أي كفاءة أو عقل راجح، فيحكمون بعواطفهم، ويمارسون الفساد لخدمة أهوائهم حتى أضحى الكبير في هذا المجتمع صغيراً والصغير له القيمة والاهتمام، فينشد قائلاً:

"وتبدلوا الوجوه غير وجوه.... وصار العقل بين الأنام يتوه

ومعتوه إيدو تناولت حتى الغدر... يقضي ويمضي بأمرنا معتوه

وزغيرنا يرسم على كيفو صور... وكبيرنا يا حسرتي نسيوه".

وهو يدعو دائماً إلى المحبة والتعايش بين مكونات الشعوب، لذا تفوح جلساته وأمسياته وقصائده بالتسامح وتوحيد الخالق، إذ هو على قناعة أن لا فرق بين شخص وآخر إلا بالمعاملة الحسنة، والعمل الصالح والتقوى الصريحة التي تصل العبد بربه، متسائلاً عن حقيقة الذين أرادوا التفرقة بين الناس ولمَ يرمون؟ ولذلك يقول:

"شو يعني مسلم ولاّ نصارى... ويهود وصابئ وأهل المجاسي

وشو يعني شعوب ربي اللي اختارا.... الو مع غيرن منن سواسي

وشو يعني ابن هاجر أو سارة.... وابن يعقوب ومين أهلو يآسي؟؟".

أما الوطن، فله القيمة العليا، وهو الأب الكريم والأم الرؤوم والأخ السند والحبيبة التي تملأ على الشخص حياته ووحدته، لذا يحرض على حبه والتضحية من أجله فيقول في قصيدة الوطن:

"قالوا الوطن أم وجنح بيلم.... وبتظل ابنا حاملي همو

مثل اليمامة فراخها بتلم..... وكلهن تحت جنحانها التموا

والوطن بي وخي، جد وعم...... وزهر وبنفسج يضحك بكمو

الوطن زلغوطة حكيها من التم.... ورجعة مسافر حن لأمو".

وكما للوطن الأكبر المنزلة الكبيرة عنده فهو يتغنى بمسقط رأسه "أشرفية صحنايا" التي كبر فيها ونهل من خيرها، فيقول:

"الأشرفية ضيعتنا... عزتنا وكرامتنا... ماضيها وقفات العز... وصوب الماضي شدتنا...

اشتقنا لخبزات التنور... ودرب الخلوة والمعبور... والصبح وصوت العصفور... يصحينا من نومتنا...".

"عبدو الصوص" صديق الشاعر قال عنه: «إن الشعر طاقة وإمكانية وفطرة، وهو لا يصنع الشاعر، بل الموهبة التي ترسخ تلك الطاقة، والشاعر تهذبه وتطلق عنان قلمه ولسانه اللقاءات والمواقف والقراءات، والشاعر "رفاعة" بدأ متأثراً بالمحيط، وألقى شعره في المجالس والسهرات ثم في المراكز الثقافية».

وتحدث السيد "الصوص" عن لقاء كان يجمع عدداً من أصدقاء الشاعر يسمى لقاء الأربعاء، فقال: «هناك يتبادل المهتمون بالشعر والأدب ما فاضت به خواطرهم وجادت به عقولهم وأقلامهم، وكان ختام المسك دائماً قصيدة أو اثنتين للشاعر "رفاعة"، خاصة إذا رنم قصائده الغزلية البسيطة أو الموال الزجلي، أو إضاءاته على الشعر الشعبي في حدود الوجه الذي يدركه ويمتلكه».

إذاً لقد حظي الشعر الشعبي أو الزجل بمكانة متميزة لدى أبناء الريف السوري عموماً، ولدى أبناء "صحنايا" وأشرفيتها خصوصاً، حيث يعقدون بين الفينة والأخرى حلقاتهم التي تمتد إلى الهزيع الأخير من الليل أغلب الأحيان، بشعر شعبي وزجلي يتخطى الهواية بهدف الدخول إلى صميم الحياة اليومية، متغلغلاً في أدق تفاصيلها راوياً تراثاً وتقاليد وعادات ويوميات اجتماعية بقوالب شعرية غنائية.