قُدّم في مؤتمر المدينة و الثقافة ما يزيد على السبعة عشر بحثاّ وورقة عمل تمحوّرت حول علاقة المدينة بالثقافة و اللغة و الذاكرة و السلطة و المواطنة، بالإضافة إلى صورة المدينة و معانيها و حضورها في الشعر و الرواية، واتخّذت تلك الأبحاث و المشاركات من دمشق أنموذجاً أساسيا ورصدت بعضاّ من ملامح تطورّها الثقافي تاريخياً بالإضافة إلى مدنٍ أخرى كالقدس و باريس و دبلن...

و فيما يلي سنسلط الضوء على بحثين قدّما في المؤتمر: الأول لوليد إخلاصي" المدينة سلطة تصنع الثقافة - تساؤلات"، و الثاني لحسّان عباس" المدينة وثقافة المواطنة".

و ليد إخلاصي لخصّ لنا أهم ماء جاء في بحثه" المدينة سلطة تصنع الثقافة": بدأت الثقافة الإنسانية بالتشكل في المجتمع الزراعي و مع تطور الإنسانيّة أصبحت المدينة هي الوريثة الفعلية للثقافة الريفية. ثقافة المجتمع الزراعي برأيي هي نتيجة الغريزة إضافة إلى كونها نتاج التواصل الإنساني مع محيطٍ أكبر ، أما ثقافة المدينة اليوم فيغلب عليها طابع التصنيع، وهي مستقاة من الحياة الزراعية إلا أنها مصنّعة.

وليد إخلاصي

و قبل ذلك كلّه يجب التذكير بأنّ التجمع البشري هو الذي اقتضى و جود الثقافة أي أنه بدون تجمع بشري ليس هناك ثقافة، و هذه أوليّات ندركها بالحس التاريخي و ليس بالمعادلات العلمية. المدينة هي الوصي الأساسي على الثقافة البشريّة اليوم و هذا يقودنا إلى سؤال هل المدينة هي التي كوّنت السلطة ؟ أم السلطة هي التي تكوّن الثقافة؟ أم هناك رأي وسطي بين الرأيين؟ طرحت هذا التساؤل في بحثي الذي قدّمته أمام المؤتمر دون أن أملك إجابةً محدّدة عنه و تركت ذلك للنقاش.

و لكن ما هو مفهوم السلطة؟ هل السلطة هي الحكومة؟ برأيي الحكومة هي جزء من السلطة التي هي: التجمعّات الأهلية و الأحزاب و الرأي العام... و مجموع هذه العناصر يكوّن مفهوم السلطة بالتوازن مع مفهوم الثقافة. و برأيي أيضاً السلطة مسؤولة عن تبنّي و إنشاء المشروع الثقافي الوطني و بالتالي يصبح هذا المشروع جزءاً من عمليّة التصنيع التي تحدّثنا عنها، وهذا التصنيع هو مستقبل الثقافة الحقيقية في المجتمعات المدنيّة، أي أن الثقافة يجب ألا ّ تترك لتمشي في سياقها فقط بل يجب التحكّم بها ، كما يتم التحكم بالثروات الباطنيّة على سبيل المثال..

و لكن كيف يتكوّن مشروع الثقافة الوطنيّة؟ الأمر يتطلب أربع خطوات أو مراحل أساسيّة استعرضتها أمام المشاركين في المؤتمر:1- تكريس ثقافة العمل:أي أن يستطيع المشروع الثقافي تحويل فكرة العمل إلى قيمة موازية لقيمة العبادة، و هذا موجود أصلاً في ثقافتنا الدينيّة إلا أنه أُهمل الآن و هذا أحد أسباب الفشل في نشر الحالة الثقافية، على عكسِ مجتمعاتٍ أخرى متطورة كاليابان مثلاّ التي يكتسب العمل فيها أهميّة خاصّة و يجيّر لصالح المجتمع ككل.

2- يجب أن يعطى مفهوم الإتقان قيمة عليا إلى جانب العمل في المشروع الثقافي الوطني، و هذا أيضاً موجود في ثقافتنا الدينيّة،وأعطيت مثلاّ عن الإتقان في العمل كسبب للشهرة و الانتشار: السيف الدمشقي المشهور منذ قرونٍ طويلة في كلّ أنحاء العالم و هذا يعود إلى إتقان صنعته، فالسيف الواحد يأخذ من جهد المصنّع شهراً كاملاً ، و كل منجزات التكنولوجيا الحاليّة عجزت عن تقديم ما يماثله في الجودة و الميّزات. والسر يكمن في إتقان العمل والتطلّع إلى الكمال ، فالثقافة بشكلٍ عام هي كمال المجتمع و الإنسان و هي مؤشر على حالة الرقي التي يعيشها مجتمعٌ من المجتمعات.

3- البحث عن الإبداع: يجب أن نبحث عن المبدعين كما نبحث عن المعادن الثمينة، التنقيب عن المبدعين برأيي وظيفة اجتماعية في غاية الأهميّة،بل هي الأهم في بناء المشروعٍ الثقافي الوطنّي، فكم من المغنّين مثلاً استطاعوا الوصول إلى الشهرة في مجتمعٍ من المجتمعات لتميّز أصواتهم لكنّهم ليسوا الوحيدين ففي المقابل يوجد مئات في قاع المجتمع قد تمتلك أصواتاً أهم إلا أن أحداً لم يبحث عنها، و هذا يمثّل خسارة لمجتمعٍ كان بإمكانه اكتساب مزايا ثقافية إضافيّة.

4- التوصيل: أي أن يتم توصيل النتاج الثقافي بكلّ أنواعه لكافّة أفراد المجتمع

بأقنية سليمة، و بالتالي لا تكون وظيفة الإعلام فقط نقل الواقع كما هو، و إنما نقل الإبداع ليصبح ملكاً للآخرين و بالتالي تصبح الفائدة أعم.

بتلك النقاط الأربعة يمكن استكمال المشروع الثقافي وإن كان الموضوع يحتاج إلى فرق عمل ضخمة و جهود كبيرة لهندسة هذه العملية بمراحلها الأربع، و اعتقد أنه عبر تكريس هذه المفاهيم( العمل – الإتقان- الكشف عن الإبداع – التوصيل) يمكن للثقافة أن تخلق سلطةً حقيقية.

أما عن بحث " المدينة و ثقافة المواطنة" فقد تحدثّ لنا عنه حسّان عباّس: لقد قمت من خلال هذا البحث بتعريف مفهوم المدينة والتأكيد على أنّها نشأت في منطقة شرق المتوسط قبل ستّة آلاف عام تقريباّ، و بالرجوع إلى فترة (أوروك) التاريخية بيّنتُ كيف كانت المواطنة موجودة في هذه المدينة من حيث هي مجموعة علاقات مدنيّة،و ذلك من خلال الرقيمات التي وصلتنا عن حياة (جلجامش) من الملحمة الشهيرة أو من الرقيمات السومريّة الأخرى. كما تطرّقت لمفهوم المواطنة من وجهة نظري و كيف أقرأ هذا المفهوم في المدينة،وقلت أنّ المواطنة كمفهوم تتجلّى على المستوى الثقافي بالكياسة، وناقشت مفهوم الكياسة و تساءلت عن وجوده في دمشق اليوم هذه المدينة التي أخذتها نموذجاً للمدينة العربية ، وبتناولي لدمشق أنموذجا وجدت أن بنية هذه المدينة الاجتماعية تفرض وجود الكياسة بسب تنوّع مكونّاتها الثقافية، و من خلال المعايشة الراهنة لواقع الحياة في دمشق رأيت مع الأسف وجود ازدواجية في السلوك، بمعنى أن الكياسة موجودة على مستوى التعامل اللفظي و الخطاب لكنّها تتحول إلى عنفٍ على مستوى الفعل، وأعطيت أمثلةً متعدّدة عن ذلك تتعلق بعلاقة الفرد مع الحيّز العام و النظافة والتلوّث السمعي و البصري..

و أخيراً طرحت تساؤلاً عن وصولنا إلى هذا الغياب للكياسة بالمفهوم الانتربولوجي الثقافي،ولم أقدّم إجابات عن هذا التساؤل بل تركته مطروحاً للنقاش ، إلا أنني قدّمت اقتراحات هي بمثابة محاولات للإجابة منها: 1- العولمة قد تكون سبباً في غياب الكياسة، ومن ملامحها هوس الشباب بالانترنت الذي يجعلهم يعيشون في مجتمعٍ افتراضي، و بالتالي يستغنون عن العلاقات الاجتماعية التي تفرضها متطلبّات الحياة في المجتمع الحقيقي و ما يترتّب عليها.

2- غياب القدوة أو على الأقل كون المقتدى بهم أناس ناجحين اجتماعياً وحسب،فهم ليسوا مصلحين اجتماعيين أو فلاسفة أو مواطنين متميّزين بمواطنتهم، بقدر ما هم أبطال من هذا الزمن بالمعايير الماديّة فقط دون أن يتعلق الأمر بالفعل الاجتماعي.

و إذا كانت المواطنة مرتبطة بالكياسة فأعتقد أن مفهوم المواطنة قد تردّى كثيراً في هذه الأيام ، ففي مدينةٍ مثل دمشق التي أعطت اللغة العربية فعل تدمشق أي صار مسايراً و مسالماً و يعرف الآخر و يتقبّله. قد يأخذ أحدٌ حقك دون أن يلتفت إليك على مبدأ( حلال عالشاطر)، وإذا تحدثّت إليه تجده في غاية الكياسة و اللطف في الحديث. أما على مستوى السلوك فهو عكس ذلك تماماً.

بكلام حسّان عباس نكون قد سلطّنا الضوء على اثنين من البحوث المقدّمة أمام مؤتمر المدينة و الثقافة كنموذجٍ عن أعمال المؤتمر التي ستنشرها الأمانة العامة لاحتفالية دمشق عاصمة الثقافة العربية في كتابٍ خاص لاحقاً.

وليد إخلاصي: سوري من مواليد الاسكندرونة 27/5/1935م، حاصل على بكالوريوس في الزراعة و دبلوم الدراسات العليا، و هو يكتب القصة و الرواية و المسرحية و الزاوية كنوعٍ صحفي ،و له العديد من الدراسات ، ترجمت نماذج من أعماله إلى عدة لغات وأعدت عنها دراسات جامعية لا سيما أعماله المسرحية، ونشر له أكثر من 45 كتاب في أجناسٍ أدبيّة متنوعة. حاز العديد من الجوائز آخرها وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الممتازة عام 2005م.

حسّان عبّاس: سوري من مواليد عام 1955م- حاصل على إجازة في الأدب الفرنسي من جامعة دمشق و دكتوراه في النقد الأدبي من جامعة باريس الجديدة... السوربون الثالثة. له عدّة دراسات في مجلات علمية و كتب جماعية في بلاد عربية و أوربية:( أنا،أنت،هم) كتاب جماعي عن المواطنة 2002، ( دليل المواطنة)بالاشتراك مع د. أحمد معلا 2004.