قسّمت شخصيتها بين الطبيبة والإنسانة، مازجةً بين الأمومة والتدريس في مهامها، فأحبّها طلبتها وتسابقوا إلى المدرجات التي تحتضن محاضراتها، لينصتوا إلى أسلوبها الممتع في شرح وتفصيل علم الطفيليات، فحوّلته من علمٍ جافٍ إلى أكثر العلوم تشويقاً.

مدوّنةُ وطن "eSyria" التقت بتاريخ 23 أيلول 2020 الدكتورة "عبير الكفري" في مكتبها بجامعة "دمشق" لتحدثنا عن مسيرتها العلمية بالقول: «بعد الانتهاء من الدراسة الثانوية، وضعتُ أمام قرار مصيري وهو اختيار الفرع الذي سأتابع فيه تحصيلي العلمي، فدخلت كلية الطب، عن طريق التسجيل المباشر، ومضت سنوات دراستي في هذه الكلية دون رسوب أو تأخير، وفي السنوات الأخيرة منه دخلنا مرحلة السريريات ولقاء المرضى، وهنا كنت أشعر بشعور المريض، يود لو كان بإمكانه رفض وجوده بين مجموعة من الأطباء والطلبة الذين يشخّصون حالته، فشعرت أني دخلت مجالاً لا يمكنني أن أتابع فيه، خاصة بعد التماس المباشر معهم، والرهبة لم تكن خوفاً من عالم الطب وأمراضه، بل كانت رهبة عدم إمكانية مساعدتي للمريض وإيصاله إلى مرحلة الشفاء.

لا فرق بين المرأة والرجل في ميادين الحياة، لكن طبيعة المجتمع قد توحي بذلك، فكلما كانت شخصية الإنسان قادرة على فرض وجودها فهي تعدُّ شخصية مقنعة لمحيطها، فيجب أن يعرف الإنسان ما هي المهمة المطلوبة منه ويؤديها بأحسن صورة بغض النظر عن جنسه، وعلى صعيدي الشخصي كان لأهلي وزوجي دور كبير في استمراريتي بالعمل والدراسة إلى جانب مسؤوليتي تجاه عائلتي، من خلال دعمهم المنطلق من إيمانهم بإمكانياتي، وبقدرتي على الوصول إلى ما أصبو إليه في حال توافرت لي الظروف المناسبة

بعدها انتقلت إلى مرحلة التفكير في الاختصاص الذي سأكون طبيبة فيه، مع عدم إغفالي للجانب الحياتي، ومحبتي لتكوين العائلة فيما بعد، فقررت اختيار الاختصاصات التي تسمح لي بمنح عائلتي وقتها المناسب، وأول خيار كان طب الأدوية، وممارساتها العملية البعيدة عن التماس مع المرضى، لكني لم أتابع فيه كونه يشبه الصيدلة أكثر من الطب، وبعدها اتجهت نحو الطب المخبري، الذي تكمن أهميته كونه مرتبط بالتغيرات التي تحدث داخل الإنسان، وهو مرحلة متقدمة تسمح للطبيب المخبري بالتماس مع المريض قبل طبيبه، مع أنّ محيطي كان يشجعني لدخول اختصاص الطب النسائي، وهنا جاء دعم زوجي لي، الذي بارك كل خيار أتخذه وأرى فيه راحتي».

الدكتور "محمد طاهر اسماعيل"

وأكملت: «دخلت الطب المخبري، فمجالات تطبيقاته في فتح المخبر كانت معقولة من حيث التكاليف والإمكانيات، ومن الناحية المادية ربحه جيد، ومهمتي فيه أخذ عينات المريض وإعطاء نتيجة ذات مصداقية عالية، حيث سيشخص الطبيب حالة المريض على أساسها، ومسؤوليته هي في ضرورة تحمل النتائج المخبرية للحالة.

في السنوات الأولى من اختصاصي أنجبت ابنتي الأولى، وبعدها تأهبت لاستقبال ابني الثاني، ورغم ذلك كانت سنواتُ دراستي متواصلةً دون انقطاع، وعدت إلى محافظتي "درعا" وفتحت مخبراً بالمشاركة مع شخصين، وبقيت فيه مدة عامين، لكن بعد مدة من التجربة العملية بدأت أشعر بأن عزيمتي مثبطة، كون العمل في المخبر روتيني، وكل يوم فيه يشبه سابقه، فيأتي المريض ونأخذ منه العينة، ثم ندخل إلى المخبر الداخلي، تصدر النتائج، ويعود المريض لاستلامها، ليقرأ زوجي فيما بعد إعلاناً عن تعيين معيدين في جامعة "دمشق"، ولم استهجن الفكرة كون محورها الأساسي هو التدريس، لأني دائماً كنت أدرّس أشقائي الأصغر مني طوال سنوات وجودي في بيت العائلة، وأرى متعة في أداء هذه المهمة، تقدمت إلى مسابقة المعيدين، ونجحت فيها، لأنتقل إلى الخطوة الأولى في مجال دخول السلك التدريسي الجامعي، وبعدها إلى مرحلة اختيار البلد الذي سأكمل فيه دراسة الدكتوراه، ولم أكن أرغب في المضي إلى الخارج، فقد كان لدي عائلة أحبها وأشعر بالمسؤولية تجاهها، ومن سوء الحظ عدم وجود الإيفاد الداخلي حينها، وكان المشرف العلمي على مشروعي الدكتور "محمد طاهر اسماعيل" حينها مشجعاً لي على الإيفاد الخارجي، وقدمت اعتذاراً للجنة التي كانت تجري المقابلات مع المعيدين، فأخذوا جميع المعيدين باستثنائي، وبقي الأمر معلقاً مدة 7 سنوات، وتقدمت بطلب بأن يتم السماح لي بالإيفاد الداخلي، فكنت أول معيدة أسجل دكتوراه في قسم الطب المخبري في جامعة "دمشق" وليس في الخارج، وعملت على موضوع "اللاشمانيا" الجلدية والحشوية والعوامل الناقلة لها في منطقة جنوب "سورية"، ووجدت نفسي في مجال التدريس، ومحبتي لإعطاء المعلومة جعلتني أفكر في طرق لتسهيل إيصالها، وفي الاختصاص اخترت الطفيليات رغم أنه غير محبب للطلاب، فهو ليس سهلاً بالنسبة لهم، لذلك حاولت قدر الإمكان منع الطالب من التخيل وحده، بل البحث عن صور وفيديوهات لتبسيط صورة الطفيلي في مخيلته، فرؤية العامل الممرض تساعده على حفظ المعلومة بسلاسة».

وتابعت بالقول: «في عام 2010 ترفعت لمرتبة الأستاذ المساعد في الجامعة، وإلى مرتبة الأستاذ عام 2019، وضمن الأبحاث التي عملت عليها، "اللاشمانيا في "إدلب"، و"اللاذقية"، ونلنا جائزة "الباسل" على أهمية البحث.

أهتم بالتركيز على الأبحاث المحلية التي يمكن للطالب الاعتماد عليها في دراسته وتخليه عن أبحاث الدول الأوروبية وغيرها، وتشجيع الطلبة على إجراء دراسات من الحالات التي يتعاملون معها، بعدها انتقلت لمرحلة استلام المهام الإدارية التي تعدُّ جزءاً من حياة الأكاديمي، ويستهلك فيها وقتاً من حياته، وفيها أيضاً مسؤولية لأنّ الإداري في قسمنا مسؤول عن عدد من الشعب: الأحياء الدقيقة، الطفيليات، الكيمياء، المناعة والدمويات، وبقيت أحاول أن تبق الناحية التدريسية هي المحور الأساسي في حياتي، لكني سررت باستلام المنصب الإداري لأنه فرصة لتقديم خدمات لهذا القسم، وتسهيل أمور كوادره وطلبته».

وعن دور المرأة في المجتمع قالت: «لا فرق بين المرأة والرجل في ميادين الحياة، لكن طبيعة المجتمع قد توحي بذلك، فكلما كانت شخصية الإنسان قادرة على فرض وجودها فهي تعدُّ شخصية مقنعة لمحيطها، فيجب أن يعرف الإنسان ما هي المهمة المطلوبة منه ويؤديها بأحسن صورة بغض النظر عن جنسه، وعلى صعيدي الشخصي كان لأهلي وزوجي دور كبير في استمراريتي بالعمل والدراسة إلى جانب مسؤوليتي تجاه عائلتي، من خلال دعمهم المنطلق من إيمانهم بإمكانياتي، وبقدرتي على الوصول إلى ما أصبو إليه في حال توافرت لي الظروف المناسبة».

وحول رسالة الطبيب لخصتها د. "الكفري" بالقول: «عندما يؤمّن أيّ عامل في القطاع الصحي خدماته للمريض، فهو سيصبح بحالة صحية جيدة، وسيتابع عمله في مجتمعه، لينعكس ذلك إيجاباً على الجميع، فنحن جزء من التوازن في المجتمع، وجسم الإنسان ليس من السهل دراسته، والطبيب لا يصبح طبيباً بسهولة بل يحتاج إلى سنوات من البحث والدراسة، ومهمته ليست فقط تسكين ألم المريض، بل جعله قادراً على متابعة حياته بشكل سليم، وواجب كل طبيب بذل أقصى الجهد لنيل شهادته ليصبح قادراً على التحكم بصحة الآخرين، والجهد ليس فقط يكون في الدراسة، بل بالبحث في خفايا العلم الحديث ومواكبتها، والابتعاد عن الطرق التقليدية في فحص المرضى، إذا كان الطبيب متأكداً من أنها لن تعطي النتيجة الأصح لتشخيص حالة المريض».

الدكتور "محمد طاهر اسماعيل" أستاذ في كلية الطب بجامعة "دمشق" قال عنها: «عرفت الدكتورة "عبير" كمعيدة في الجامعة، وشجعتها على التحضير لنيل درجة الدكتوراه، وأبدعت حينها في بحثها حول "اللاشمانيا" في "سورية"، وجاء تشجيعي لها لإيماني بأنها ستكون وريثتي في هذا القسم، ومحاضرة ناجحة فيما بعد، عملنا على عدة أبحاث، كما ألفنا معاً كتاباً عن الأمراض الطفيلية والفطرية يدرس في جامعة "دمشق"، وعدة جامعات حكومية وخاصة، وحصلنا معاً على جائزة "الباسل" للبحث العلمي عام 2008، وأثناء عملها كرئيسة قسم الطب المخبري كانت ملتزمة بشكل تام، نشيطة وخلوقة، وجهودها واضحة في دعم استمرارية العملية التعليمية بالشكل المطلوب، تحتوي طلابها كأم، وتحاول مساعدتهم في جميع المجالات العلمية، والمدرج في محاضراتها يمتلئ بالطلبة كونها تشد الطالب من خلال أسلوبها المبسط وشرحها الممتع».

يذكر أنّ الدكتورة "عبير الكفري" من مواليد محافظة "درعا" عام 1963، مقيمة في محافظة "دمشق"، عضو في عدد من اللجان العلمية منها: مجلس البورد السوري للتشخيص المخبري، مشرفة على رسائل لطلبة الدراسات العليا، مشاركة في لجان الحكم على رسائل الماجستير، ومؤلفة لكتب منها "الطفيليات والفطور الطبية" بقسميه العملي والنظري، ولها عدد من الأبحاث العلمية.